آه يا غجر

آه يا غجر


بقلم : خيري شلبي


يطيب لي أن أكتب اليوم عن نموذج سبق



أن أعلنت عليه الحب منذ وقت قصير،



وكانت براءة الحب وشهادة قيده في.



سجلاتي الرسمية هي تلك الصورة الفنية التي



اجتهدت في رسمها بالكلمات



مستهديا فيها بملامح وجه من الخارج



والداخل معا فيما يسمي بالبورتريه.



ذلك هو الشاعر نبيل خلف الذي قرر



أن يفرض فنه علي الحقل الثقافي دونما



وسيط من أي من مؤسسات



الدولة ممثلة في وزارتي الثقافة والإعلام،



فليكن هو نفسه مؤسسة خاصة قائمة



بذاتها هو فيها الرئيس والسكرتير وموظف



الأمن والفراش إن احتاج الأمر لذلك.



نبيل خلف هو أوضح نموذج للفنان الذي استغني



عن جميع مؤسسات الدولة وصنع نفسه



بنفسه وهذا سر افتتاني به..


ومدفوعا بهذه الحاسة ذهبت

إلي مسرح مدينة نصر لأشاهد


مسرحيته الجديدة (آه يا غجر)

التي أخرجها باقتدار المخرج الشاب


المستنير ناصر عبدالمنعم


ولعب بطولتها المطرب علي الحجار



الممثلة الكبيرة سوسن بدر وكل من



أحمد سلامة وألفت إمام وأحمد عزمي



ورنا نبيل، وكوكبة أخري من الممثلين:



مني حسين وحسن الديب ومحمود عزت


ومني جلال وشادي نبيل.



وقام بتلحين المسرحيه



الموسيقار الموهوب أحمد الحجار.



وأشهد أنني عايشت عرضا مسرحيا


ا ساحرا منعشا للنشوة



من مصادر متعددة: جمال الشعر في الأساس،



عمق وجدة الألحان العبقرية،


مرونة صوت علي الحجار

ولونياته البنفسجية المبهجة الشجية


في أن مما يؤكد أن كلا

من أحمد الحجار وعلي الحجار موهبة


مسرحية غنائية ثرية جدا

وحتي الآن لم نغترف من فيضها


ولأن كلا منهما يقدم الجديد الطازج.

أما البنورة المسحورة السنيورة سوسن بدر


فإنها بنت الأساطير حقا،



لكأنها خلقت لاستجلاء شخصيات


بطلات الحواديت المصرية البهيجة،

هي ست الحسن والجمال وهي الأميرة


وهي الحطابة



وهي أيضا بنت الشمس والمطر


، أداؤها موسيقي، قائمة بذاتها

استطاع أحمد الحجار أن يضمنها


ألحانه البديعة. وأما أحمد سلامة

فإن أقدامه تزداد رسوخا علي خشبة المسرح


، إنه ممثل كبير الموهبة

عميق الثقافة شديد الإحساس بالدراما


. وماذا أقول في أحمد عزمي؟


سأكتفي بالإشارة إلي أن السينما المصريه

حاليا في أشد الاحتياج



إلي هذا 'الولد' علي وجه التحديد ليعكس


ألوانا جديدة من أبناء القاع



السحيق ولابد من الإشارة كذلك



إلي أن جميع الممثلين تألقوا بصورة مبهرة.




ولم يكن ليتاح لهم شيء من هذا التألق




لو لم تكن الأرض قوية من تحتهم ممثلة في




نص مسرحي ضخ المشاعر




في قلوب الحجر والصخر فما بالك بالإنسان؟.




ولكن ماذا يقول هذا النص المسرحي؟.




الواقع أنه يقول الكثير الكثير



، بتعبير أصح يطرح الكثير من الرؤي الفنية



ذات الدلالات الكثيفة، وأوضح هذه الدلالات


ما يمس أوضاعنا الراهنة



وصحيح أن التفاصيل المشهدية تتعلق


بضروب من الحيوات الغريبة

ذات الطابع الأسطوري، وكلها


تشخيص لحياة طوائف من قبائل الغجر



علي امتداد التاريخ البشري واتساع


الجغرافيا العالمية، إلا أنه تقريب



مصطنع بدقة وموهبة شعرية رفيعة المستوي،


الهدف منه خلق مساحة



شكلية تضعنا نحن المشاهدين خارج البرواز


لكي نتمكن من المشاهدة



الإيجابية والإمعان في التأمل علي اعتبار


أننا نري حياة ناس مختلفين عنا،



ولسوف نكتشف بعد قليل من البدء أن هذه الحياة



شبه الأسطورية التي نراها أمامنا تلخص جوهر



أوضاعنا الراهنة بوجه خاص،



وجوهر الوضع البشري علي


الكرة الأرضية بوجه عام.



وأنه جوهر إنساني درامي بكل معني الكلمة،



إذ إن قبائل الغجر هذه التي صارت في هذه



المسرحية الشعرية معادلا دراميا لشعوب



العالم الثالث الواقفين تحت الهيمنة الأمريكية



المفروضة عليها بالقوة الجبرية باسم العولمة


والديمقراطية، هي في حقيقة



التاريخ قبائل ذات حضارات أعمق


وأخصب وأكثر إنسانية، وأكثر عولمة


علي النحو الثقافي والإنساني الصحيح لمعني العولمة،



ولكن قوة البطش الأمريكية المعاصرة



التي تسعي لاحتلال العالم والسيطرة


علي مقدراته وثرواته

لتكون هي السيد الآمر والباقي عبيدا


مأمورين، ليست جديدة في الواقع،


إنما الصراع أزلي ومن قديم الزمن،


صراع الهمجية والغطرسة البلطجية


ضد كل ما هو حضاري، وقبائل الغجر


هم الذين يدفعون الثمن،



لقد كتب عليهم القتال دفاعا عن حريتهم



وعن رغبتهم في تعمير الكون



بنفس إنساني دافيء يعطي لكل واحد الحق



في الاستمتاع بالحياة كما خلقها ا


، وليست كل الأيدي الملوثة بالدم آثمة،

إنما يقع الإثم علي المبادر بالعدوان

ومنتهج الحوار المسلح، ولقد نجح الشاعر

في تحويل المادة النظرية

والمعلومات التاريخية التي استقاها

بصبر وأناة من مصادر متفرقة لا حصر لها

أرخت للقبائل الغجرية في جميع أنحاء العالم

وقدمت فيها الأبحاث والدراسات،

نجح الشاعر في الانفتاح علي جميع هذه المصادر

باستخدام أدوات الميديا الحديثة،

ثم نجح في تحويل أي مضمون حيوي،

إلي دراما،

قام بتخليق حدوتة تصلح متكأ لبناء

مشاهد درامية شعرية متفجرة

بالمشاعر المحرضة علي الوعي بالحريه


والدفاع عن الكرامة الإنسانية،

الأصل في بناء هذه المسرحية الشعرية


ليس الحدوتة ذات التركيب الدرامي


التقليدي المعروف، إنما الأصل فيها هو 'المشهد

'
المسرحي الذي يمثل ذروة شعورية نري علي ضوئها

ما يمكن أن يكون قد حدث


في الخفاء الزمني في المساحة

غير المرئية من الأحداث، وهي تبلغنا

عبر هذه الذروات الشعورية


بأعمق وأوضح وأفعل مما لو شاهدناها


مجسدة علي المنصة،


وبهذه المهارة الفنية الموفقة استطاع أن 'يؤلف'

بين الشتات الغجري المتناث


ر في التاريخ والجغرافي والمتناقض أحيانا

والملتبس أحيانا أخري


، وأن يخلق الألفة بين هذا الشتات


ويجعل من الغجر رمزا يشخص


من خلاله صراع الحضارات ضد البربرية

والهمجية ولقد كان ذلك أمرا

بالغ الصعوبة في الواقع علي شاعر

ليس من خريجي معهد المسرح


وليس ممن تربوا في ورشته العمليه

.
كما أنه لم يستسلم للمشهد فيكون وحدة قائمة

بذاتها كما يستسلم شعراء


العمود التحليلي لوحدة البيت،

بل استطاع أن يوحي بالروابط الخفية


بين كل هذه المشاهد،

وما كان يحتاج لتفسير في مشهد من المشاهد

سرعان ما تتضح أسبابه وجذوره في مشاهد تاليه،

والزمن الفني مفتوح وممتد، فحياة الغجر

حركة في الزمن ذات محطات مكانية، وكلاهما

'الزمان والمكان' مفتوح علينا، في صالة العرض،



في هذه الليلة الفلانية من الزمن الراهن


عام ستة بعد الألفين.


الرأي عندي أن هذه المسرحية تستحق أكثر من جائزة،

وفوزها في مهرجان المسرح العربي

هو تكريس للمسرح الجاد والفن الأصيل غير التجاري،

وهو أيضا تمجيد لهذه الجمعية النبيلة من هواة المسرح،

ومن يسوق اللجاجة بشأن استحقاق

أو عدم استحقاق هذه المسرحية يضع نفسه

بين أولئك المتغطرسين الذين استعلوا

علي الغجر بصفاقة رغم أن الغجر أكثر إنسانية،

ومن ثم يحق لنا أن نصيح في

وجوه المعترضين ونحن نفضل الدلالة الشعبية الدارجة


لعبارة:

آه يا غجر..