بدأ المسرح المصري بداية غنائية
من خلال أعمال الفنان سلامة حجازي الذي كان له السبق في تقديم عروض من هذا
النوع, والتي لاقت نجاحا جماهيريا كبيرا
خصوصا بعد أن أنشأ فرقته الخاصة عام1905, وقدم العديد من المسرحيات
الغنائية التي نذكر منها' صدق الإخاء ـ هناء المحبين ـ البرج الهادئ ـ السر
المكنون' وغيرها, ثم جاء من بعده سيد درويش أبو الموسيقي المصرية الحديثة
الذي لحن'13' مسرحية غنائية فيما بين عامي1917 ـ1923 نذكر منها' أحلاهم ـ
قلنا له ـ رن ـ راحت عليك ـ العشرة الطيبة ـ الباروكة وشهر زاد', وتوالت
عروض المسرح الغنائي, فقدم كامل الخلعي مسرحيات غنائية ذات موضوعات مقتبسة
منها' كارمن ـ ياسين ـ توسكا', كما لحن داود حسني المسرحيتين الغنائيتين'
شمشون ودليلة' و'ليلة كليوباترا' كما لحن زكريا أحمد ست وخمسين مسرحية
غنائية, نذكر منها:' دولة الحظ ـ الوارث ـ عزيزة ويونس ـ يوم القيامة',
ومنذ منتصف الخمسينيات تقريبا اختفي المسرح الغنائي من علي خشبة المسرح
المصري, باستثناء محاولات قليلة جدا تعد علي أصابع اليد الواحدة, مثل
أوبريت' مهر العروسة' الذي قدمه بليغ حمدي في منتصف الستينيات وعرض علي
مسرح دار الأوبرا القديمة, وفي نفس الفترة قدم الموسيقار محمد الموجي' هدية
العمر', وقدمت المسرحيتان في وقت كان فيه الفنان القدير عبدالحليم نويرة
مديرا لإدارة المسرح الغنائي. وفي منتصف السبعينيات قدم بليغ حمدي أيضا
أوبريت' تمرحنة' الذي أخراج جلال الشرقاوي, وقامت ببطولته المطربة وردة,
وبعد هذا الأوبريت قدم الشرقاوي أيضا في نهاية الثمانينيات أول أوبرا مصرية
معاصرة من خلال عرض' انقلاب' الذي لحنه الموسيقار محمد نوح وقامت ببطولته
نيللي وإيمان البحر درويش, وأثناء ذلك قدمت الفنانة شريهان عرضين يمكن أن
نطلق عليهما مسرحا غنائيا استعراضيا. وحاول المطرب علي الحجار سواء بأمواله
أو أموال غيره من المنتجين إحياء المسرح الغنائي فقدم العديد من التجارب
لعل أهمها علي الأطلاق' رصاصة في القلب و يمامه بيضا',كما قدم كلا من محمد
منير مسرحية' الملك هو الملك', ومدحت صالح' المهر', وبعد هذه التجارب لم
يقترب أحد من المسرح الغنائي إلي أن فوجئنا منذ أيام بدعوة من المخرج
الرائع ـ الذي أتمني إلا يأخذه العمل الإداري من عمله كمخرج متميزـ هشام
عطوه مدير مركز الهناجر للفنون لمشاهدة إعادة لرائعة سيد درويش' شهر زاد'
تأليف عزيز عيد وأشعار بيرم التونسي وتوزيع موسيقي عبدالله رجال ووليد
حيدر, وديكور د. عبدالمنعم مبارك, واستعراضات د. عاطف عوض وبطولة د.محمد
عبدالمعطي, أيمن الشيوي, ومطربي الأوبرا الشباب' رحاب عمر,وليد حيدر, نهاد
فتحي بالاضافة لأحمد أبوعميرة, وائل زكي, ناجي ممتاز, محمد السعداوي.
والحقيقة أننا استمتعنا بهذا العرض الفني الجميل الذي قام بإخراجه أحمد
عبدالجليل, حيث قدم عملا جيدا علي جميع الأصعدة باستثناء الديكور الذي جاء
هزيلا لا يتناسب مع مسرحية غنائية تتطلب نوعا من الإبهار سواء في الديكور
أو الملابس, لكن بعيدا عن الديكور استطاع عبدالجليل تقديم عمل غنائي ممتع
من خلال الأصوات الثلاثة الرائعة' وليد حيدر ورحاب عمر ونهاد فتحي' الذين
كانوا أجمل ما في العرض بإمكاناتهم الصوتية المتميزة,وتمثيلهم الجيد
المقنع,كما كان موفقا أيضا في اختياره لفريق عمل العرض من الممثلين فقدم
أيمن الشيوي واحدا من أهم أدواره واستطاع إتقان اللهجة الشامية بمهارة
وسلاسة ويسر, وقدم الخبث والدهاء بخفة ظل,وكذلك الدكتور محمد عبدالمعطي,أما
مفاجأة العرض الحقيقية فكانت في الممثل' وائل زكي' الذي قدم دور' قمع
الدولة' بتمكن شديد, والشئ الجميل أن اختيار هذه المسرحية تحديدا من'
ريبورتوار' سيد درويش لإعادة تقديمها في هذا الوقت الذي تغلي فيه مصرسياسيا
موفقا جدا وفيه ذكاء من القائمين علي العرض, لأن هذا الأوبريت كتبه بيرم
التونسي عندما هبت ثورة1919 تأييدا للثورة و لإثارة الحماس الوطني,من خلال
أغنياته التي تتطرق بذكاء إلي تمجيد الجيش المصري والاعتزاز بالجنسية
المصرية وصدق الإنتماء إلي مصر مهما كانت الضغوط التي يعانيها المصري في أي
مكان, والتي كان يعانيها من آثار الاستعمار كما اتضح ذلك في أغنيات' أنا
المصري كريم العنصرين' و نشيد' أحسن جيوش في الأمم جيوشنا', و' الجيش رجع م
الحرب', والجميل في هذه الأغنيات أنك تشعر أنها كتبت ولحنت اليوم رغم مرور
أكثر من80 سنة علي صنعها,وهذا يدل علي عبقرية سيد درويش وبيرم التونسي
اللذين سبق زمانهما. في النهاية تحية لكل من قدم هذا العرض الذي يجب أن
يمتد عرضه لأطول فترة ممكنة لأننا في احتياج لهذا اللون من المسرح الغنائي
الذي نفتقده كثيرا, ويجب أيضا أن يتم تسويقه ليشاهده كل طلاب المدارس
والجامعات ليتعرفوا علي تراثهم المسرحي الغنائي, وليدراكوا حجم المأساة
الغنائية التي نعيش فيها في الوقت الراهن, بسبب عدم وجود مبدعين بنفس ثقل
سيد درويش وبيرم التونسي, وأخيرا يجب أن تتاح للمخرج أحمد عبدالجليل فرص
أكثر في مجال الإخراج المسرحي الغنائي خاصة أنه مهموم بهذا النوع من
المسرح.