عندما تقول لبلدك "مش باقي مني غير شوية كفر بشروقك"
نهى عاطف
على شاطئ نهر النيل بالقاهرة، يجتمع الكثير ممن يبحثون عن الترفيه
ولا يملكون ثمنه، وبين الذرة والآيس كريم والتسالي،
كنت أمرّ هناك في تمشية مسائية. ووسط تداخل أحاديث المارة
وأغنيات عمرو دياب وتامر حسني، التي تخرج من بعض
الهواتف الخلوية وأجهزة التسجيل، كان لحناً مسموعا أكثر من غيره،
لحنٌ صعيدي يبتعد تماما عن الطابع الغربي،
معتمدا على صوت المزمار الصعيدي والطبول يرافقها
صوت جميل يقول في مرارة
"مش باقي مني غير شوية ضي في عينيا..
أنا هاديهم لك وأمشي بصبري في الملكوت...
يمكن في نورهم تلمحي خطوة...
تفرق معاكي بين الحياة والموت".
أسمع هذه المقطع وأتحرك على شاطئ النيل،
فأجد الأغنية نفسها تختلط بأحاديث المارة،
وبغناء يشبه النواح يقول المطرب...
"في معركة مافيهاش لا طيارات ولا جيش...
واقفة في طابور العيش...
بتبوس إيد الزمن ينوّلك لقمة"،
الأغنية إذا ليست عاطفية، فمن غير المتصور
أن يخاطب الحبيب حبيبته بهذه المرارة في اللحن
ليخبرها بكل صراحة في الكلمات أنها في معركة غير حربية،
هي انتظارها في الطابور للحصول على الخبز،
وتوسلها للزمن لتحصل على بعض الأرغفة.
المثير للاستغراب، أن يسمع الناس مثل هذه الكلمات وقت التنزه!،
"التمشية" على النيل تعني الإنطلاق الذي تتسق معه
أغان صاخبة وألحان مرحة، حتى إن تشابهت كلماتها.
وفي كل عام يكون هناك "أغنيات الصيف" التي تنتشر
طوال الموسم في أماكن الترفيه والتسوق والمصايف.
المدهش أيضا أنني سمعت الأغنية نفسها من أكثر من هاتف خلوي،
مايعني أنها تقترب بالفعل من أن تصبح واحدة من "أغنيات الصيف"،
وهو ما يظل استثناء لقاعدة أن الغناء للوطن له مواسمه!
وعلى أكثر مواقع تحميل الأغاني شعبية في مصر،
حمّل الآلاف أغنية "مش باقي مني" على حواسيبهم،
وشاهد عشرات الآلاف على موقع "يو تيوب" للفيديو
كاتبها الشاعر الكبير جمال بخيت وهو يلقيها في أحد البرامج التلفزيونية،
التي انتهت بدموع في عينيه وعيني المذيعة.
بل أن العشرات ركّبوا صورا ومقاطع فيديو على القصيدة بصوت بخيت،
وصنعوا لها أكثر من "فيديو كليب" نشروه في الشبكات الاجتماعية المختلفة.
أن توجد أغنية وطنية ناجحة ومتميزة، فهذا أمر طبيعي،
لكن ما يستحق التوقف هو الخطاب الوطني في هذه الأغنية
وغيرها مما ظهر خلال السنوات الثلاث الماضية.
فحتى الأغنيات التي أعقبت أكثر الهزائم العسكرية
وجعا لمصر في عام 1967 لم تكن بهذا القدر من المرارة.
كان الفنان عبد الحليم حافظ يقول بكل ألم
"عدّى النهار،
والمغربية جاية تتخفى ورا ضهر الشجر"
لكنه في الوقت نفسه يرى مصر فتاة جميلة
"ع الترعة بتغسل شعرها.. جانا نهار مقدرش يدفع مهرها"،
وكان الشاعر عبد الرحمن الأبنودي مؤمنا بنفسه وبالشعب
فكتب في نهاية الأغنية نفسها
"بلدنا ليل نهار.. بتحب موال النهار".
أما اليوم فالشاعر بخيت يتحدث بلسان حال المصري
بكل صراحة مخاطبا مصر ة كفر ب"مش باقي مني غير شويشروقك"!.
وكذلك كان الشيخ إمام عيسى، الذي اشتهر بتلحينه
وغنائه أشعارا وطنية في الستينات والسبعينات تسببت في مطاردته
ودخوله السجن أكثر من مرة، كان يرفض إبداء أي انكسار إذا ما غنى لمصر.
وفي قصيدة الشاعر الراحل نجيب سرور "البحر بيضحك ليه"
يقول نجيب "في إيدي ناي والناي مكسور..
وصبحت أنا في العشق مثل"،
لكن إمام عندما غناها رفض أن ينكسر الناي،
وحولها إلى "في ايديّ عود.. قوّال وجسور".
وعندما تمكن إحساس الإنكسار من عود الشيخ إمام
وعزف لحنا حزينا، كان يقول لبلده "يا مصر قومي وشدي الحيل ...
كل اللى تتمنيه عندي" فكانت كلماته- التي كتبها نجيب شهاب الدين-
تحمل إيمانا بنفسه. أما بخيت فهو أيضا لا يبخل على وطنه
بكل ما لديه قائلا لمصر
"أهديكي عمري وحسي وجوارحي ..
أهديكي جرحي...
هو اللي باقي في دنيتي لما خلص فرحي".
بخيت أيضا مايزال لديه
"شوية ضي في عنيا..
أنا مش عايزهم لو اشوفك وانتي بتوطي"
ويصف لها هذه الإنحناءة التي تؤديها في "طابور العيش"
للحصول على الخبز، لتتبدد الصورة التي رسمها المصريون
لبلدهم كفلاحة "على الترعة بتغسل شعرها"
أو كما قال الشاعر العظيم صلاح جاهين "مصر
واقفة في الفرندة واسمها جولييت"، لتنزل من "الفرندة"
وتعود من "الترعة" لتقف في "طابور العيش".
الملاحظ هنا أن الشاعر اليوم لا ينادي مصر باسمها!،
وكل الأغنيات التي تخاطب الوطن وحققت نجاحا في السنوات الثلاث
الأخيرة لا تسمع فيها إسم مصر، حتى لا تكاد تفهم أن كلماتها
موجهة إلى الوطن. فأغنية مثل "بحبك وحشتيني" للفنان حسين الجسمي،
كان مقصودا بها الوطن، وجاءت في سياق المشهد الأخير
لفيلم "الرهينة" عندما يعود البطل إلى مصر التي تركها بحثا
عن الرزق في أوروبا. الشيء نفسه في أغنية "لا باظت ولا خربت"
للشاعر أيمن بهجت قمر، الذي يكتب بعامية مصرية لا تخلو من التهكم.
في أغنيته يصف حال البلد بسخرية "عايشين في حرية...
القيود اختفى... اتحدى لو واحد يوم انضرب بالقفا"
مستخدما الكناية الشعبية الشهيرة (الضرب على القفا) للتعبير عن الإهانة،
والنجاح الكبير لهذه الأغنية جاء مصحوبا بتصنيفها الصحيح
كأغنية عن الوطن والحياة، رغم أنها لم تذكر اسم البلد.
وحتى أغنية الفنانة شيرين "ماشربتش من نيلها"
التي تزخر بوصف تفاصيل ملامح مصر، لم تسمّ الوطن صراحة.
وفي علم البلاغة، يدل حذف آداة النداء على قرب المنادي
من المنادى عليه حسيا أو معنويا، وفي النحو يكون حذف المنادى نفسه
إما لوجود قرينة أخرى تدل عليه، أو لأنه معروف ضمنيا
أو أن ذكره لا يضيف معنى جديداً.
ومنذ سنوات طويلة، لم يعد المصريون مرحبين بالأغنية "الوطنية"
بمعناها الحماسي. وكل ما ينجح من الأغاني التي تخاطب وطنهم،
يأتي في سياق درامي، فأغنية "لا باظت ولا خربت"
كانت أغنية النهاية لأحد المسلسلات، و"مش باقي مني"
في فيلم "دكان شحاتة"، وقبلهما أغنية "زي ماهي حبها" للفنان مدحت صالح
في فيلم "مافيا"، وتظل "ماشربتش من نيلها" استثناء يندر تكراره.
وبدا أن الناس في مصر غير مرحبين بالأغاني ذات الطابع الحماسي،
خاصة تلك التي تظهر في مواسم الانتخابات بإنتاج من التلفزيون الحكومي،
ويكثر فيها استخدام كلمات "مصر اللي بضمنا نبض الحياة فى دمنا
نوهب عشانها حياتنا"، أو الأغنيات التي تعزف على أوتار "الوحدة الوطنية"
والتماسك بين المسلمين والأقباط والجو الديني بمصر،
وغيرها من الأشياء التي يشهد الواقع اهتزاز صورتها المثالية.
لكن المصريين يرحبون كثيرا بالعبارات الواقعية، والغناء
للوطن الآن هو الحديث عن هذا الواقع، حتى وإن داعب همومهم.
والخلط بين الحب والغضب هو الخلطة الصادقة للتعبير
عن شعور المصريين تجاه بلدهم،
من قول صلاح جاهين عنها "أكرها وألعن أبوها بعشق زي الداء"
إلى قول بخيت "مش باقي مني غير شوية دم...
متلوثين بالهم...
مرين وفيهم سم..
ما اقدرش اسقيكي مواجعه...
وبرده ما اقدرش ارميك وأبيعهم...
يمكن في يوم تعوزي تتطلبيني شهيد..
حاحتاج يوميها الدم يمضي على شهادتي".
ومن بعد التغني لانتصار تشرين/ أكتوبر 1973 لم يعد لأغاني الفداء
والاستشهاد في سبيل الوطن موقع من الإعراب لدى الرجل العادي في مصر،
الذي أصبح مهموما بالتعامل مع السياسات الجديدة من انفتاح
وليبرالية وأشياء عديدة لا يفهم عنها سوى أنها أمر واقع لا يتوافق معه
ترديد ما تغنيه الفنانة العظيمة شادية "ليل نهار عاهدوني نبني ليل نهار"
أو أغنية الفنانة عفاف راضي "مصر هي أمي" التي تخبرنا
فيها بصدق أن بلدها "ست كل عصر...
ضل جنب نيلها تسوى ألف قصر".
ففي ظل بطالة المصري وصعوبة إيجاده مسكنا،
تكتسب هذه الأغنيات رغم صدقها- طابعا ساخرا!
وفي الثمانينات، بعد تزايد هجرة المصريين للخارج،
بحثا عن مورد رزق، كانت معاني الإغتراب
والشوق للوطن هي السائدة في أغاني الوطن.
ولأنها ارتبطت بظروف الواقع وابتعدت عن الصورة التاريخية لمصر،
نجحت هذه الأغاني في تحريك مشاعر الأفراد،
لتظل أغنية "الحدود" لفريق الأصدقاء علامة في أذهان شباب الثمانينات،
يذكرونها حتى اليوم، إذا ما سافروا للخارج. عبارات مثل
"كنت فاكرة يا مصر اني تعبت منك ...
واكتشفت اني محال استغنى عنك...
قبل ما نسيبك وحشتينا يا مصر يا أمنا"
هي مجاز مقبول في وقت كان العائد لمصر يقبّل أرض المطار
فور نزوله من الطائرة!،
وحتى صورة مصر "الأم" كانت مريحة لهؤلاء الذين تأكدوا
من أن بلدهم هو الملجأ الذي تكتب لهم فيه السكينة، تماما كذراعي الأم،
وأن أي تعب تتسبب فيه "الأم" مقبول لكونها في النهاية أمهم!
الفترة نفسها غنت فيه الفنانة داليدا بلكنتها الفرنسة
"كلمة حلوة وكلمتين... حلوة يا بلدي"،
التي وصلت لمشاعر مصريين كثيرين ابتعدوا عن أوطانهم،
كانوا يحاولون الاحتفاظ بالصورة "التاريخية" لبلدهم.
ربما كان جمال بخيت نفسه منهم، لكنه اليوم في مصر،
ينظر إليها ويكتب:
"الليلة راحت عيوني تطل على البستان..
وجناين الرمان.. رجعت لي توصف عناد الغل والدخان...
وسحابة سودا تضلل علي الغُنا الغلبان".
وبعدها كانت "حدوتة مصرية" بداية الانطلاقة لنوع جديد من الغناء للوطن،
الذي يتحدث مع مصر بصدق وحميمية
"... أخاف عليك يا مصر واحكي لك على المكنون...
مين اللي عاقل فينا مجنون...
مين اللى مدبوح م الألم...
مين اللي ما يعرفش غير كلمة نعم"
، الأغنية التي كتبها عبد الرحيم منصور وأداها محمد منير
في فيلم يحمل إسمها ما تزال مطلوبة جدا في حفلات منير،
لابتعادها عن "كليشيهات" الغناء لمصر.
وبعدها سأل الفنان إيمان البحر درويش وطنه
"يابلدنا يا بلد...
هو من إمتى الولد...
بيخاف من أمه لما في الضلمة تضمه"
فكتب للأغنية نفسها النجاح.
وتوارى الغناء للوطن خلال التسعينات،
فلم ينجذب المصري إلا لعدد محدود من الأغنيات عن بلده،
منها ثنائية لمحمد منير وأنوشكا يقولان فيها لمصر"إنت بلاد طيبة"
في استدعاء للإسم القديم للعاصمة المصرية، ويواصلان
" وقريبة وحبيبة..
انت أمل وحياة...
ليك أنا غنيت يا دنيتي وناسي..
إذا كنت مرة جنيت...
حقك على راسي".
أيضا أغان للفنان علي الحجار من أشعار جمال بخيت،
لم ينتجها للفضائيات إنما غناها في تجمعات
بمعرض الكتاب أو حفلات مفتوحة للجمهور.
وأتى عام ألفين بإنتفاضة الأقصى، ليتحول الغناء للوطن إلى
"الوطن الأكبر"، وتظهر عشرات الأغاني عن القدس وفلسطين،
وتحرز أغنية "الحلم العربي" النجاح الأكبر،
رغم أنها سبقت الإنتفاضة بعام كامل. ولم يتوقف المصريون
عن ترديد هذا الأوبريت وغيرها إلا مع الحراك الداخلي الكبير في عام 2003،
الذي شهد ظهور حركات احتجاجية كثيرة، كانت تحرّف
الأغاني الوطنية القديمة إلى أناشيد يرددونها في المظاهرات،
فتحول النشيد الوطني
"بلادي بلادي لك حبي وفؤادي...
يا أم البلاد أنت غايتي والمراد"
إلى "كفاية كفاية ... إحنا وصلنا للنهاية...
مصر يا أم البلاد لسا فيك الإضطهاد"،
وفي الفترة نفسها انتبه الناس بشكل أكبر لأغنيات على الحجار
التي حرّف فيها هو أيضا- التراث أو لنقل عارضه،
فتحولت أغنية فنان الشعب سيد درويش
"الحلوة دي قامت تعجن في البدرية"
لتصبح "لا الحلوة غنت ولا قامت...
بنغير ريقنا بعيش بايت".
في تكرار غير مقصود لما فعله الشاعر نجيب سرور عقب النكسة،
فحوّل "تيمة" (البحر بيضحك ليه) الشعبية إلى
"البحر غضبان ما بيضحكش...
أصل الحكاية ما تضحكش".
ومنذ 2003 أيضا بدأ الشباب يصنع أغاني الوطن بنفسه،
بخطاب يتراوح بين الإعتزاز بمصر،
وهو النهج الذي تتبعه فرقة "أنا مصري" التي تعزف
على أوتار الأصالة والتآلف بين المسلمين والمسيحيين،
أو إعادة الأغاني القديمة التي تتناول تفاصيل الوطن،
أو بتكرار الخطاب القديم الذي نجحت في تحديثه فرقة "اسكندريلا"،
أو السخرية من الأوضاع الحالية في مصر،
مثل فرقة "بركة" التي تؤدي أغنية بعنوان "وطن العك"!
المشترك في كل هذه الاتجاهات هو الميل للحديث إلى الوطن،
مصارحته أو معاتبته أو حتى وصفه بصورة الحالية،
أما الحديث عن مصر، فلا يصنع اليوم أغنية "وطنية" ذات شعبية.
0 التعليقات:
إرسال تعليق