حين تـُختزل الأوطان والأزمان في حنجرة
محمد قنديل
قصة وداع أيقونة مصرية
قصة وداع أيقونة مصرية
نبيل شرف الدين :
في زاوية أخرى من المشهد كانت "إذاعة الأغاني" تذيع على غير العادة وبشكل متواصل أغنيات للمطرب "الفخم الفحل" محمد قنديل ، يا رايحين الغورية .. تلات سلامات .. حدوتة .. الحلو أبو شامة .. بين شطين وميه .. إن شالله ما اعدمك، ع الدوار .. ع الدوار، راديو بلدنا فيه أخبار، ولعل هذا وحده كان سبباً كافياً لأن تلعب كل الفئران في كل الصدور وحدثتني نفسي الأمارة بالظنون قائلة: "أخشى أننا عدمناه إذن"، ولأن بعض الظن ـ وليس كله ـ إثم، فقد كانت الهواجس في محلها، فلم تسطع شمس ذلك اليوم على محمد قنديل، الصوت المغمس بلسعة الكشري "أبو دَقّة"، ورائحة محشي ورق العنب، وطعم "فتة الكوارع" ومذاق "طاجن العكاوي"، ونكهة "صوابع زينب"، ورائحة ماء الورد، وغنج القُلة "المتغندرة" على شباك بنت الجيران وغيرها من مفردات ذلك الزمن البعيد، الذي يبدو الآن كأنه طيف باهت لحلم قديم.
وحكايتي مع عم قنديل قصيرة، رغم أن اعجابي بصوته يرجع إلى بداية تعرفي على الغناء، ومستهل قدرتي على التمييز بين أصوات المطربين، لكن ما حدث أنه خلال الشهور الأخيرة أيضاً، "نقح عليا" أو بالفصحى ألحّ على كياني كله الفقيد الكبير، فسألت نفسي لماذا لا اتواصل مع الرجل، لماذا لا أزوره .. لاشك أنه سيسعد أن جيلاً جديداً يتذكره ويحبه ويعرف له قدره، ويتدثر بصوته وسط هذا الهرج والصخب السائد في الأجواء.
لاسأل عن دياره
واروح له وازوره
واتملى بنوره
واخد له هدية
يا غاليين عليا
وكان هذا ما حدث بالفعل، اتصلت به ودار بيننا حوار هاتفي قصير ظفرت خلاله بموعد للقائه، وكمن ضرب موعداً مع معشوقة أو غالٍ عاد بعد طول غياب، هيأت نفسي لهذا اللقاء، فكرت .. وسألت الأصدقاء والأهل عما يمكن أن أحمله معي للرجل، ولم أكن متحمساً للورود ولا الذهاب إليه مسلحاً بالكاسيت فحسب شأن الزملاء الصحافيين النشطين الأشاوسواروح له وازوره
واتملى بنوره
واخد له هدية
يا غاليين عليا
وكأنني كنت أسعى إلى اقتناص لحظات "تراث شخصي" قبل غياب هذا الصوت الفخم، الذي يعكس روح القاهرة الشعبية, وليست القاهرة الفلكلورية المصطنعة للسياح و"الخواجات" أو "العرب", وهناك بلا شك فارق كبير, فكما أمسك الصديق نبيل عبدالفتاح، الباحث في مركز الأهرام للدراسات السياسية، بذلك الخيط الدقيق للروح الشعبية المصرية, التي تنتج بتلقائية عبر الإبداع الموسيقي والغنائي والشعري تجليات عديدة للتواصل الإنساني والمشاعر والحواس, وأساليب التعبير عن الحب والغزل والصداقة والأشواق والقيم الشعبية الجميلة ذات الجذور في ثقافة الأمة, ولا سيما ثقافة المدينة الأم القاهرة, بكل جروحها ومشاكلها وكوارثها وعنفها وقبحها, حتى مع تردي مرافقها وفوضاها وأشكال التزييف والعشوائية, علي سلوك أهلها والوافدين إليها رغما عن كل شيء وعن مدن العالم الأكثر حداثة وجمالا وتنظيما وعراقة, تبقي القاهرة أكثر بهاء واستعصاء.
....
عرفت أن عم قنديل يعاني السكري والضغط، والأخطر أنه بات أكثر انسحاباً من المجتمع خاصة بعد رحيل رفيقة دربه، ولم يعد هناك من يرعاه سوى ابنة شقيقته، وقبل أن أطرق باب شقته، الذي كان بدوره يشبه أغنياته، باب خشبي عتيق صلب تفوح منه رائحة "التمرحنة"، ارتبكت قليلاً وأنا أحمل في يديّ "جوز حمام" الذي استقر الرأي بعد تفكير ومشاورات على أن يكون هو هديتي للرجل المغرم بحمام "الغية"، وحتى هذه الهواية حرم منها الرجل بعد غياب زوجته التي كانت تساعده في الاهتمام بألف زوج حمام لم يعد باقياً منه شئ، كما قال لي ذلك لاحقاً بأسى.
لم أنتظر في الصالون كما يحدث حتى في مقابلة أشباه وأنصاف الموهوبين، بل كان الرجل بنفسه جالساً أمامه جهاز راديو حديث، لعله الشئ الوحيد الحديث في شقة تبدو من الداخل كأنها في إحدى حارات القلعة أو الدرب الأحمر أو الجمالية أو باب الشعرية، رغم أنها تقع في بناية فخمة بأحد أرقى شوارع ضاحية مصر الجديدة الراقية، لكن من قال إن الأمكنة لا تتآلف مع البشر بعد طول العشرة ؟
بدا لي عم قنديل كأنه جبل المقطم .. شامخاً فوق كل ضوضاء وغوغاء القاهرة، لحظة إشراقه أحسست دون أدنى مبالغة بهبة نسيم تشبه تلك التي اعتدت تلقيها وأنا أفرد أشرعتي على رابية المقطم ليلاً، أتذكر ساعتها أن يدي ظلت مشتبكة بيديه أكثر من دقيقة، كان حنوناً كأم، شهماً مثل "ابن الحتة"، أصيلاً كوجوه "المراكبية" في نيل مصر، وتصادف في هذه اللحظة أن إذاعة الأغاني كانت تبث رائعة محمد عبدالوهاب "مين عذبك"، الذي كان يدندن في أحد مقاطعها متسائلاً :
أنا اللي مهما تعذبني ساكت على الغُلبّ وصابر
وان شفت غيري متهني .. أصبّر القلب الحاير
وايمتى بس هترحمني .. هو العذاب دا ملوش آخر ؟
علقت قائلاً إن "لصوت عبدالوهاب دلالاً من طراز خاص على الأذن"، فرد عم قنديل "ومن مثله؟، إنهم الآن في مصر لا يعرفون قدر هذا الرجل وما صنعه للموسيقى مهما زعموا غير ذلك"، وقبل أن أسأله عمن يقصد بهؤلاء، مضى الفقيد قائلاً : "هذا الرجل صنع لمصر هوية موسيقية، أو على الأقل هو محطة مهمة للغاية في ترسيخ الهوية الموسيقية المصرية المتمايزة عن غيرها، ولعله الأكثر أهمية بعد الشيخ سيد درويش مباشرة".
.....
تحرك فضول الصحافي داخلي، وتذكرت أنني قرأت حواراً صحافياً له يحكي فيه عن خلاف جرى بينه وبين عبد الوهاب، فبادرته مبدياً دهشتي لأنه يقول هذا عن عبدالوهاب بعد رحيله، بينما اشتبك معه خلال حياته، فابتسم الرجل بطيبة لا افتعال ولا ادعاء يشوبانها، وقال : "هكذا أنتم الصحافيون .. أشرار هذا الزمان، هل تعرف أن المحاكم المصرية القديمة كانت محقة ألا تأخذ بشهادتكم ؟"، وصمت لحظة قبل أن يستأنف أسئلته: "هل تعرف أيضاً أن سبب مشكلتي مع المرحوم عبدالوهاب كان تصرف صحافي غير أمين؟".
وأومأت بالنفي طمعاً في الفوز بقصة منه، غير أنه قبل أن يواصل السرد وضع يده على كتفي كأنه أب يعلم ابنه درساً، قائلاً : "قبل القصة وما جرى بيني وبين الأستاذ يجب أن تدرب نفسك على الحق، أن تعرف الحق وأن تقوله ولا تكتمه، لا خوفاً ولا مجاملة ولا حقداً، فحتى لو كنت أحمل خبرة غير طيبة لعبدالوهاب، فلا ينبغي أن يكون ذلك سبباً لغبنه حقه كفنان كبير، وصياد أنغام لا يشق له غبار، وصانع أصوات وصاحب بصمة، لا ينكرها سوى جاهل أو جاحد"، ثم صمت لحظة وطلب لنا شاياً دون أن يسألني إن كنت راغباً بذلك، وعاود الحديث عن عبد الوهاب، ليروي ما جرى بينهما.
ورّانا السكة .. وسبقنا
وهجرنا بعد ما شوقنا
ولا همو هوانا وأشواقنا
ومضى العم قنديل قائلاً: جاءني ذات يوم صحافي وسألني عن رأيي في عبدالوهاب فقلت انه "فنان ممتليء بالموسيقى الشرقية ويستطيع ان ''يطبخ'' اللحن الشرقي مع الغربي الذي يقتبسه بمهارة"، في اليوم التالي فوجئت بعنوان عريض يتصدر الصحيفة "قنديل يقول: عبدالوهاب حرامي موسيقى"، وبالطبع غضب مني الأستاذ وحاولت تبرئة نفسي وإبلاغه من خلال وسطاء بأن الصحافي زيف هذا الكلام دون جدوى، لكن بعد سنوات طويلة عرف عبدالوهاب الحقيقة من الصحافي نفسه، فعاد يتحدث عني مع أصدقائه ويشيد بصوتي وادائي، وكان يردد امام المقربين منه اتمنى ان يطرق قنديل بابي ويطلب مني لحناً، لكنني لم استجد ذلك يوماً".وهجرنا بعد ما شوقنا
ولا همو هوانا وأشواقنا
.....
امتد الحديث بيننا ساعات ثلاث، لم تكن كافية لولا إشفاقي عليه، بهرني في نهايتها حين أمسك العود وراح يدندن بعافية وعفوية، كأنه لم يتوقف عن الغناء يوماً، وحين أدرك دهشتي ابتسم.. وكانت لابتسامته رائحة الليمون، وطعم الكنافة بالمكسرات، وواصل عم قنديل أنشودته "الثورية" الشهية:
ارفع راسك .. أوعى تطاطي
ولا تنذل .. لغير العاطي
وابني ف أرضك عالي وواطي
خللي البور في بلادنا جناين
خللي الصحرا تبقى مداين
لاجل نعيش دايماً أحرار
ع الدوار ..
جاءت أغنيته الشهيرة، التي غازلت الثورة والثوار، فرصة لاستدراجه صوب شاطئ السياسة قليلاً، فسألته:ولا تنذل .. لغير العاطي
وابني ف أرضك عالي وواطي
خللي البور في بلادنا جناين
خللي الصحرا تبقى مداين
لاجل نعيش دايماً أحرار
ع الدوار ..
ـ هل كنت فعلاً تصدق حلم الستينات، كما صدقه عبد الحليم وجاهين والطويل وغيرهم؟
وانهمر الرجل كالسيل قائلاً: "ومن منا لم يصدقه؟، كلنا صدقناه، وكلنا فجعنا به وفيه، كلنا انكسرنا، ولم تقم لأي منا قائمة بعده، لم يكن مجرد جرح يلتئم، بل ترك عاهة مستديمة، وربما عاهات، انظر إلى مطربي هذه الأيام، إنهم "شوية أراجوزات"، ودعنا من التلفزيون والاذاعة الحكومية التي تفسح لهذا العبث كل الساحات والمساحات، دعني اسألك كصحافي، لماذا يسكت النقاد على هذا التهريج ؟، قديما حين كنا نخطىء كانت الصحف لا ترحمنا، أما الآن فحتى النقاد الكبار صامتون، كأن ساحة الغناء لا تعنيهم أو كأنهم متواطؤون على إفساد ذوق جيل وربما أجيال"، ومضى متسائلاً:
"لن أتحدث عن نفسي، درءاً لأي شبهة، قل لي: من هو الآن في وزن عبدالوهاب، ومن يملؤ فراغ محمد فوزي، ومن اقتربت من هامة ثومة، ومن يمسك بعود سيد مكاوي"، لم يتوقف قنديل أمام استدراكي، حين قلت إن لكل جيل ذائقته ولكل زمن طعمه، لكنه أطلق ابتسامة ساخرة وقال: "حتى الصوت الذي عشمنا فيه خيراً مثل علي الحجار .. عليه العوض"، وأمسك عن الاستطراد مفضلاً الصمت، واحترمت رغبته.
في هذه اللحظة لا أعرف لماذا تذكرت فجأة صلاح جاهين، وسألته عما إذا كان فعلاً كما يقال قرر أن ينسحب من الدنيا ويموت، وجاء جوابه بإيماءة تعني الإيجاب، كان صوت عم قنديل عميقاً وحزيناً، وهو يقول "الراجل ده يا ابني كان مخزن بهجة، كان حاطط مصر كلها في بطنه، كان مصري حتى النخاع، عمل لي غنوة اسمها (حدوتة) التي يقول مطلعها "لو كنت ست الحسن والجمال، هيكون أمير أحلام غرامك أنا، أزعم أنها واحدة من القطع النادرة في الغناء المصري، (حتة بونبناية)، أنا نفسي معرفش قلتها ازاي، وهي واحدة من الأغاني القليلة التي أطرب لنفسي حينما أسمعها".
كنا قد احتسينا الشاي والقهوة وبدأت ابنة شقيقته تتململ منبهة خالها بموعد الدواء، وكان هذا يعني الرحيل، فنهض الرجل يودعني حتى باب شقته، وهناك سألته : ما الذي تتمنى أن تفعله الآن يا عم قنديل؟، فأجاب : "نفسي أسجل الآذان بصوتي، أتمنى أن يكون هذا آخر ما أتركه خلفي"، احتضنته بحرارة كأننا صديقان قديمان، وهبطت الدرج بسرعة، وكان وداعاً أخيراً.. وكلما هلّ بصوته على أذني، بل على كياني كله أردد معه :
يا غالي عندي ..
وعند الناس ..
وعند اهلك ..
ويرحمك الله يا عم قنديل، رحمة واسعة قدر ما أمتعتنا، وأخلصت لفنك وانسانيتك وصدقك، وعزة نفسكوعند الناس ..
وعند اهلك ..
،،،،،،،
0 التعليقات:
إرسال تعليق