الخميس، 15 نوفمبر 2012

على الحجار والشرعية.. بورتريه من الحوارى والميادين



 د.أشرف الصباغ


مات رئيس الوزراء فجأة، فجمع الرئيس مستشاريه وطلب منهم ترشيح رئيس وزراء جديد. وبعد فترة أجمع المستشارون على أحد الشخصيات وقدموا الاسم إلى الرئيس. فسأل الرئيس عن أسباب الترشيح وقدرات هذه الشخصية. فقال المستشارون بالإجماع: شخص لطيف وبشوش ومستمع جيد وكلامه مقنع وحسن الخلق ويصلى ويصوم وسلوكه قويم. فرد الرئيس: أنا واثق بأن لا أحد فى العالم يتمتع بمثل هذه الصفات مثل السيدة والدتى، لكننى أريد رئيسا للوزراء! وهذه نكتة سياسية متداولة فى العالم العربى على الرؤساء ورؤساء الوزراء ومن هم على شاكلتهم!
المسؤول الحكومى شخص عادى إلى أن يبدأ عمله فى منصبه. فتبقى له صفاته الشخصية فى بيته وأسرته. لكن العمل يتطلب قدرات مناسبة للمسؤولية وإمكانيات عملية وعلمية على القيام بوظيفته دون الخلط بين اللطف والبشاشة وحلو الكلام والخلق والصلاة والصيام. كل ذلك إما بينك وبين الناس فى البيت وعلى المقهى أو بينك وبين ربك الذى سيحاسبك على عباداتك. المنصب والمسؤولية يتطلبان مقومات أخرى تماما، لأن هناك بشرًا ودولة وأمنًا قوميا ومشاريع وطنية وثقافة وفنا وفلسفة وعلوما ومستقبل أمة بالكامل فى انتظار التطوير والتحديث والتقدم إلى الأمام.. هذا الكلام يخص لقاءات الرؤساء وكبار المسؤولين بالنُّخب التى تخرج من هذه اللقاءات وهى فى شبه غيبوبة وخدر لذيذين وتوقد وحماس من لطف اللقاء ودفئه وحلاوة اللسان لنكتشف أن النخبة بوعى أو دون وعى تشرع فى خلق صفات إلهية وخلع سمات ملائكية على موظف رسمى بالدولة سرعان ما يتحول إلى طاغية.
على الجانب الآخر تمامًا رأيتُ مغنى الثورة المصرية على الحجار فى الميدان وفى الشارع بين الناس. رأيته يغنى ويتحرك مثل بقية الجموع الغفيرة فى لحظات التحول الاجتماعى والتاريخى. الفنان هنا لم يقم بمعجزة أو يسير بين الجموع تحت ضغوط أو تهديدات، بل فعل كل ذلك باختياره وبمحض إرادته وفقًا لوعيه ورؤيته لدوره الحقيقى كمواطن وفنان. من الصعب هنا أن أحول على الحجار إلى زعيم أو قائد ثورة عندما أراه يجسد كلمات شعراء مصر ويمنحها الأجنحة ويحولها إلى ترانيم حقيقية ستدخل حتمًا إلى صلب الميثولوجيا الشعبية عندما يكتب الناس تاريخهم. وهم بالفعل يكتبونه كل يوم فى خط موازٍ لتاريخ سقيم وفقير وملوث تكتبه أيادٍ ملطخة بالدسائس ورائحة الأموال والمؤامرات. هنا تحديدًا يكتسب الفنان شرعيته الحقيقية من الحارة والشارع والميدان، لا من السلطة أو شماشرجية السلطان أو من وسائل الثقافة والإعلام المدجنة لخدمة محفل ما من محافل السلطة، فما بالنا عندما يتشكل محفل واحد فقط لإدارة دولة بكل قدراتها الخلاقة وتاريخها العريق وإمكانياتها الواعدة؟! وربما يكون خالد الذكر «فنان الشعب» سيد درويش هو أكبر مثال على طبيعة الفنان الوطنى الذى اكتسب شرعيته من نغمات شعبه وترانيمه وشيوع ألحانه، ومن أغانيه على ألسنة البسطاء والصبايا والشباب. قد تكون الجائزة الأكبر هنا هى تربع الفنان على سطر واحد من التاريخ الفنى لشعبه، عندما تختلط الأوراق وتتشابك الأمور ويصبح عمى البصر والبصيرة هو قانون الحياة والعلاقات الاجتماعية والإنسانية. عندما ينكرك الصديق والرفيق وحبل الوريد وتصبح قاب قوسين أو أدنى من العزلة والاحتراق، تعيدك أغانيك وألحانك على ألسنة الصبايا والشباب إلى سيرتك الأولى مغنيًّا للطير فى السماء، مرددا كلمات الله خالصة بريئة من دسائس المحافل والشرعيات الزائفة والوجوه المخيفة والأرواح المظلمة.
من الطبيعى أن تكتسب السلطة شرعيتها وفقا لتقاليد ما، من ضمنها تدجين النخبة وتقديم الإغراءات لهذا الفنان أو ذاك، وتدليك البروستاتا لهذا المثقف أو ذاك. هكذا تتحاور النخب التى تجيد التبريرات وتتلاعب بالكلمات مع السلطة التى تجيد دق الأسافين وتقديم المنح والعطايا. بينما المثقف الوطنى يعرف دوره الحقيقى، والفنان الوطنى يدرك جيدًا حدود الفخ المنصوب بعناية ولباقة وحلو الكلام والابتسامة اللطيفة. إن سطرًا واحدًا من قصيدة واحدة لناصر رشوان أو إبراهيم عبد الفتاح يحاور قطرة من دماء الشيخ عفت أو مينا دانيال هو بألف سلطة ومحفل. إن سطرًا واحدًا من قصيدة للأبنودى أو حداد أو جاهين يخلد دماء الشهداء الطاهرة ويمجد الإنسان المصرى بألف ألف شرعية زائفة. إن نغمة واحدة ولحنًا واحدًا وحرفًا من حنجرة فنان لنظرة من بصيرة أحمد حرارة أو آهة من خالد سعيد هى سطر من تاريخ المصريين مكللا بالنور والقدسية والشرعية الحقيقية.
«فحرمًا، يا سيدى.. حرمًا يا سيدى.. صلينا الفجر فين، صلينا فى الحسين… وسجدنا فى براح السيدة نفيسة، إذ قال جدها الأرض مسجدى..».. هكذا هو إيماننا بآلهتنا وأحبائنا.. هكذا هو ذوباننا فى أرواح أوليائنا الصالحين.. هكذا فنانو مصر المصريون تتردد ألحانهم ونغماتهم فى الحوارى والشوارع والورش والمصانع، وفى باحات المساجد والكنائس، وعلى ألسنة الطير والصبايا والشيوخ.. هكذا نغنى من ناسنا ولهم، ومعا نبصر الطريق ونسير فيه فنكتسب شرعيتنا من بعضنا البعض وليس من أى أحد أو محفل آخر

0 التعليقات:

إرسال تعليق

قائمة المدونات الإلكترونية

  • كورونا الاهلي والزمالك - باقي علي القمة الافريقية بين الاهلي والزمالك اقل من ٢٥ ساعة وناتي للاثارة والمتعة وجمال الكرة سواء من الاهلي او الزمالك ما يشغلنا في هذه المبارة موضو...
    قبل 4 أعوام
  • اعتقال أمريكي بسبب طعنه للبطيخ بطريقة عدوانية - * يواجه أمريكي تهمة التهديد من الدرجة الثانية بعدما اشتكت عليه زوجته للشرطة إثر تعرضها للإرهاب النفسي حين رأته يطعن بطيخة بطريقة "عدوانية" أمامها و...
    قبل 10 أعوام
  • La lingua Italiana per stranieri - Katerinov - La lingua Italiana per stranieri - Katerinov Book: Download here ( djvu format ) Audio: Download here
    قبل 11 عامًا
  • مسرحية " ذكى غبى جدا " - *مسرحية " ذكى غبى جدا *" *بطوله : * *على الحجار* * و محمد سعد* * و ميمى جمال* *تحميل مجاني - Free Download* *Server* مشاهدة مباشرة اون لاين *ana...
    قبل 11 عامًا
  • Pavarotti - Nessun Dorma (Live in Paris) - *ITALIAN;* *Nessun dorma! Nessun dorma!* *Tu pure, o, Principessa,* *nella tua fredda stanza,* *guardi le stelle* *che tremano d'amore* *e di speranza.* *M...
    قبل 11 عامًا
  • برلمان التحرير - «حصاوى بالمقهى يجلس شاردا وبجواره جاره» الجار: سرحان فى إيه يا حصاوى؟ حصاوى: أصلى بفكر أرشح نفسى للبرلمان. الجار: هاهاى، دا أنت مغمى عليك يا حصاوى، انتخ...
    قبل 11 عامًا
  • يا بارى الكون - يا بارى الكون فى عز وتمكين وكل شى جرى بالكاف والنون يا من احس به فى كل كائنة وقد تعاليت عن ظن وتخمين فى هدئه الليل يارب اراك فى هدئة الليل يارب اراك ف...
    قبل 12 عامًا
  • - معكم يوميا راديو الحجار من الساعه التاسعه الي الساعه العاشره صباحا ومن الساعه الثانيه ظهرا الي الرابعه ظهرا ومن الساعه الواحده بعد منتصف الليل الي السا...
    قبل 14 عامًا
  • اطفال الجنه - ايها الحب المطل من شرايين النقاء ايها الخير العظيم يا ضياء من ضايء ايها الحب المطل من شرايين النقاء ايها الخير العظيم يا ضياء من ضايء جئت بالحق تنادى ر...
    قبل 14 عامًا

إجمالي مرات مشاهدة الصفحة