علي الحجار : عندما علمت برحيل العظيم محمد نوح تذكرت الحكمة التى قالها جبران خليل جبران المحبة لا تعرف عمقها إلا ساعة الفراق. فكثيرًا ما تعرف أنك تحب فلانا، ولكن ليست بالضرورة أن تعرف مقدار هذا الحب إلا إذا واجهت ساعة الفراق.
هذا الرجل الذى كانت كل خلية من خلايا عقله وقلبه وجسده قد مزجت الفن بحب الوطن، وبنفس المقدار.
علي الحجار
لا أنسى أبدًا أننا كنا نذهب ونحن طلبة فى السنة الأولى فى كلية الفنون الجميلة إلى معرض الغنائم والذى كان مقره دار الأوبرا المصرية الآن. والغنائم هى ما كان قد حصل عليه الجيش المصرى من أسلحة ثقيلة بعد انتصاره فى حرب أكتوبر 1973 على جيش إسرائيل.
كنا نقف تحت منصة عالية يقف عليها محمد نوح وفرقته الموسيقية ليغنى ويصرخ فينا بأسلوب جديد فى الغناء لم نكن قد تعودنا عليه من قبل. ليوقظ فينا الشعور بأننا شعب قوى قد انتصر.. وها هو الآن قد استرد كرامته وثقته بقدراته. كانت فرحتنا بالنصر على إسرائيل ابنة أمريكا البكر. والتى استطاعت أن توهمنا لسنوات طويلة بأنها لا تقهر، خصوصا بعد هزيمتنا أمامها أيام نكسة عام 1967.
وها هى الآن قد شيدت بناءً حصينًا أسمته خط بارليف بطول الضفة الشرقية لقناة السويس بحيث لا تستطيع أى قوة على وجه الأرض أيًا كانت أن تخترقه أو أن تخترق إسرائيل نفسها. ولكن المصريين استطاعوا أن يخترقوه ويحطموه، واخترقوا معه إسرائيل بغرورها وعنجهيتها ومعها أمريكا.
وفى المقابل كان محمد نوح وقتها يخترق المشاعر بأغانيه ويحطم حاجز الخوف الذى كان موجودًا بداخلنا بأسلوبه الجديد فى الغناء وبتفرده فى اختيار نوع آخر من الكلمات والألحان لم يكن لها شبيه فى ما سبق أن استمعنا إليه. ثم بعد ذلك بعدة سنوات أسعدنى الحظ بلقاءات عدة مع هذا الفنان الكبير.
وكان أن حدثت حادثة غريبة وطدت أواصر العلاقة بينى وبينه بعد ذلك، وكان السبب فيها (نكتة رسمها العبقرى صلاح جاهين) وقت أن كنت أقوم بدور البطولة تمثيلاً وغناء مع الفنان الكبير محمود المليجى والفنان محمود التونى والفنانة ليلى جمال فى مسرحية «زباين جهنم»، والتى كانت مأخوذة عن «رسالة الغفران» لأبى العلاء المعرى.
وكان مُخرج المسرحية فؤاد الجزايرلى قد أصر على أن يظهر يوميا على المسرح أسد يقف معنا فى وسط مسرح البالون دون قفص!! حتى حدث يومًا أن فوجئنا بظهور كلب على المسرح، لا نعلم كيف دخل وصعد على خشبة المسرح.
وإذا بالأسد يغضب ويزأر زئيرًا مخيفًا ثم أخذ يطارد الكلب المسكين الذى كان بدوره قد توسم فى أننى سأكون الملجأ والملاذ له من فتك الأسد به فأخذ يدور حولى وكأنه يستنجد بى، ومن وراءه الأسد يحاول الإمساك به.
وحدث هرج ومرج وكأنه يوم القيامة وأخذ الجمهور يهرول هاربا من المسرح وكذلك الموسيقيين وسارع الفنان محمود المليجى بالدخول إلى أقرب فتحة خلف المسرح وكذلك باقى الممثلين والراقصين وتركوا العبد لله واقفًا فى منتصف خشبة مسرح البالون الواسعة.
بينما المطاردة ما زالت قائمة بين الأسد والكلب حتى استطاع أخيرًا المدرب محمد الحلو السيطرة على الأسد وتهدئته بعد أن هرب الكلب ومعه دمى الذى كان قد هرب قبله بوقت طويل.وبعد التحقيقات فى قسم البوليس وهيئة المسرح ووزارة الثقافة وبالطبع كانت قد نشرت وسائل الإعلام ما حدث.
فما كان من الفنان صلاح جاهين إلا أن أرخ للواقعة فى مكان الكاريكاتير الخاص به فى جريدة الأهرام. فرسمنى وكنت نحيفا جدا والأسد يصرخ جايبينلى مطرب جلد على عضم أعمل بيه إيه؟.. هاتولى محمد نوح.
كم تمنيت أن يحظى بصحبة الفنان محمد نوح كل من أحببت من الأصدقاء ليسعدوا هم أيضًا بالجلوس معه. فقد كان حكاء ومتحدثًا لبقا ومثقفا بشكل كبير. فمثلاً كان يعرف أكثر من ألف كلمة هيروغليفية اللغة المصرية أو الفرعونية القديمة ومرادفاتها ومعانيها فى لهجتنا التى ننطقها الآن.
وكان ممثلاً له تميز وخصوصية فى المسرح. وأيضا فى مجال السينما. ولا ننسى دوره فى فيلم الزوجة الثانية عندما قام بشخصية الأخ الأصغر للعمدة الظالم الممثل القدير صلاح منصور كان يشعرك وهو يؤدى الشخصية بأنها مزيج من القوة والرحمة والكرامة والتعقل فى آن واحد دون أى افتعال.
وكان محمد نوح يعرف كيف يكتب ويقرأ النوتة الموسيقية بينما معظم الملحنين الكبار من المشاهير قديمًا وحديثًا لا يعرفون هذا العلم. وكان مغنيا له صوت مميز، به خشونة لم تتكرر كثيرا. فالمغنيون المصريون دائما حريصون على إظهار حلاوة وطلاوة الصوت وفى بعض الأحيان تصل إلى حد الميوعة.. ولكن محمد نوح جاء لنا بأسلوب مختلف ومتفرد فى طريقة الأداء.
يقينا نحن الآن فى أشد الحاجة إلى سماع أغنيات محمد نوح مرة أخرى. لأن الوطن يحتاج بشدة إلى المدد. والشباب المصرى الذى لم يعاصره يحتاج إلى سماعه يغنى: شدى حيلك يا بلد.
نريد من القائمين على الأجهزة السمعية والمرئية أن يعيدوا إلى الأسماع أغنياته، منها مثلاً كلمات تقول: من صغر السن.. حمام البن ينادينى.. ماعشقتش حد.. لحد ماخد قلبى وعينى.
ونريد أن يستمع ملحنو الأغنية الوطنية الآن إلى طريقة محمد نوح الفريدة فى تناول اللحن، وكيف أنه يستطيع إخراج كل ما بداخلك من حب لله والوطن والحبيبة بأسلوب مختلف ومغاير، يجعلك عندما تستمع تثق فى قدرتك على حب كل هذه الأشياء بمنتهى الصدق وبلا أدنى تردد فى ما تشعر به.
الآن عرفت عمق محبتى واشتياقى لفن محمد نوح، فالمحبة لا تعرف عمقها إلا ساعة الفراق.