أوراق مفروشة بالسماء الزرقاء والدم، وهناك أيضا مسجد وكنيسة ومظاهرة، وجنود يدهسون فتاة، وحوائط مزينة بصور المبتسمين أبدا «الشيخ عماد عفت، وأحمد حرارة، وعلاء عبد الفتاح، ومينا دانيال، وخالد سعيد.. وغيرهم»، وبطاقات تعارف بهم.. وأخيرا جملة بجوار صورة جانبية لعلى الحجار «فى كل شارع وفى كل حارة أهتف وأنادى (مصر) بجسارة»، هذا هو غلاف ألبوم «ضحكة وطن»، فمن يقاوم هذه البسمات؟ كان يجب أن نقول لهم شكرا حتى ولو بأضعف الإيمان. على الحجار كان على قدر الحدث، يبدو هو المطرب الأكثر ملاءمة لهذه اللحظة، حين يحتفى بهؤلاء، يهدى الجمهور «ضحكة المساجين» مرة أخرى الشاعر الكبير عبد الرحمن الأبنودى، لا يبخل علينا أيضا، بصوته يبادر فى مستهل الأغنية التى لحّنها فاروق الشرنوبى، ويأخذك من يديك لتدخل معه إلى زنزانة «كل المسجونين باطل». حواديت الشهداء تبدأ مع حكاية مينا دانيال فى أغنية «أحلام بسيطة» التى صاغها ناصر رشوان ولحنها خليل مصطفى، مينا شهيد ماسبيرو الذى قال عنه الحجار بتأثر شديد: «ولا كل من يرمح خيّال ولا كل من غنّى الموال ولا كل من حب بلاده يا مصر يبقى مينا دانيال»، يسير على الحجار فى شارع الشهداء يلتقى بابتسامة أخرى ساحرة ونقية وطاهرة لذلك الذى يرتدى جلباب الأزهر، ويشع ثوبه بهاءً وينطق وجهه بكلام الله: «الله يا شيخ عماد يا حلو الاستشهاد افتى وحىّ العباد». المطرب يحاول أن يرد شيئا من الجميل ويسميه بكلمات ناصر رشوان أيضا: «نسمة الأزهر»، يواصل سرد بطاقات التعارف لرموز الثورة المطاردَين على طريقته فى «ضى عينى» ابنه أحمد يضع اللحن والتوزيع وناصر رشوان يكتب فى محاولة لبث طمأنينة أكثر للطبيب صاحب الضحكة التى تخجلنا جميعا أحمد حرارة، وعلى الحجار يمارس نفس الهواية، حيث يغنى برقّة مبكية ويرتفع بالأغنية إلى الأعالى: «لو ضى عينى ما زارش عينى والدنيا نورها كله يجافينى أنا ضى روحى وضى قلبى مصرى واسمه أحمد حرارة». ذكريات جمعة الحرائر تهب، وجمال الميدان يتجسد بأناقة نسائه «سلمى ومنى ومنال ونوارة.. وغيرهن»، ثم يهتف معهن: «عَلِّى يا حُرّة الهتاف علمتينى أبطل أخاف، آه يا حُرة آه يا حرة إنتى ثورة جوه ثورة.. المحاكمة المحاكمة للديابة اللى هاجمة»، ويواصل مع كورال كله نسائى هذه المرة ومع الشاعر أحمد حداد والملحن أحمد شلتوت: «اللى ماشية فى المسيرة تسمحيلى أنحنيلك وأقف تحية لجدعنتك وأغنيلك يا ريحة الحرية.. يا وردة بلدى صاحية تقول لا للمحاكمة العسكرية»، مرة أخرى: «لو عيون البُعدا عامية قلوبنا إحنا بصيرة»، يحتفل ببنات المسيرة ذوات الضفائر والبشرة التى لوحتها شمس الميدان، ووداع الأغنية هتافا يهز الأرجاء مثل الذى بدأ به، الموعد الآن مع ملحمة الألبوم «مسلمين ونصارى»، صوت على يتلون بألوان الطيف وما بعدها وما قبلها وتتسع مساحته طولا وعرضا وارتفاعا ثم تضيق كأنها تختنق ويقدم إبداعا مجسدا فى «مسلمين ونصارى»، الأبنودى والشرنوبى مرة أخرى ومحمد حمدى رؤوف، المقطع الثانى الذى غناه الحجار من قصيدة «ضحكة المساجين»، يلخص رسالته هنا: «الحرب واللى خاضوها بجسارة كانوا مسلمين يا عم ونصارى فازّاى تناصر دين وتنكر دين همّ اللى ماتوا فى ميدان الثورة كانت دماهم حمرا ولا سمرا. قول للّى جايين يفرزوا الدَّمين»، الناى يرفرف فى بداية أغنية «خالد». فى الخلف كورال يشارك فى صياغة عبارات الشكر للشهيد، فى مسيرة للتفاؤل بطلها خالد سعيد، ثم يبدأ احتفاليته الكبرى بالقانون والعود والناى. ثلاثتهم يرقص ويطبطب على جبين فتاة شارع مجلس الوزراء «راسك فوق يا عالية الراس إنتى أشرف م اللى داس» وزميلاتهما، صوت على حمل بهجة خاصة حينما تحدث بفخر عن نساء الثورة، يواسيهن بحنية لا تليق إلا برجل يصدق نفسه تماما عندما يناديها بـ«ست الناس»، وعندما يحلف بشرفه قائلا: «انزلى تانى وغنّى أغانى وقولى الجانى خلاص اتعرى وبشرفى يا مصر لينداس»، علِى يلعب بصوته لعبة لا يجيدها غيره. يتهدج: «كل شهيد دمه يغطيكى»، ثم يتحمس تماما ويعود إلى فرحته «عادى وجافى واوعى تخافى»، يكاد يوبخ نفسه ثم يعود قويا: «وأنا من قهرى يا حلوة عليكى لاقتل لاجلك ميت قناص».. يريد صاحب الألبوم أن يقول ببساطة إنه لن يخيب وطن به كل هذا الصدق حتى وإن كان صوت الباطل أعلى فى بعض الأوقات.
