لا
أرى في الفنان و الشاعر الراحل صلاح جاهين إلا رجلاً من كبار المبدعين و
المفكرين في علم الفن الأصيل الذي هو بنظري ( أي الفن الأصيل ) الفن الذي
يحوي في طيات مضامينه فلسفة فكرية هادفة تتناول قضايا المجتمع و الإنسان
بالدرجة الأولى .. الإنسان الفقير المتعب و المهموم ، وبوجه آخر ، الإنسان
المنتمي إلى الطبقات الدنيا أو البسيطة و أحيانا تسمى الطبقة المسحوقة أو
على الهامش . و في أحسن أوجهها الطبقة الشعبة البسيطة . و بالرغم من أعمال
الراحل الكبير صلاح جاهين ، المتعددة و التي قام بها فنانون مصريون كبار ،
كأغاني عبد الحليم حافظ الوطنية الشهيرة و أغاني و أعمال لسعاد حسني و
غيرهم ، إلا أن رباعياته تلك التي اختص بها الإنسان العادي البسيط و لم
يجعلها مجيرة لأعمال و أفلام فنية شهيرة ، قد سرت كالنار في الهشيم بين
أوساط الطبقة المصرية الشعبية و تعدتها إلى الطبقة المتوسطة ، و أصبحت
تتردد على لسان كل مواطن مصري بسيط من بائع الجرجير كما يقال إلى بياع
الطعمية و صبي المكوجي و كرسون القهوة و باقي الشعب إياه . و يتضح السبب في
ذلك فوراً إذا علمنا أن صلاح جاهين كان يخاطب برباعياته عقل المواطن
العادي ووعيه و هموم حياته . و لكن ما ميز هذه الرباعيات عن غيرها من أعمال
صلاح جاهين ( بالرغم من أنها جاءت باللغة العامية المصرية ) و حتى أعمال
غيره من المفكرين و المؤلفين ، هو أنه قام بتطعيمها بنوع من الفلسفة
الإنسانية أو شيء من فلسفة الوجود و نظرة الإنسان لهذا الوجود ، فتجلت
بنظرة الإنسان و المواطن المصري إلى الدنيا المحيطة به أو مجتمعه الذي
يعايش يومياته بكل همومها و متاعبها و أفراحها و أتراحها ، بالإضافة إلى
الأخلاقيات العمومية البسيطة التي هي بمثابة أعراف وجدانية لدى الإنسان
المصري ، فجاءت هذه الرباعيات كمزيج سحري بديع اكتسى حلة من الروعة من
الصعب الإتيان بها بشكل متكرر ، و أضحت بذلك كالدواء أو البلسم الشافي
للعليل الذي هو بأمس الحاجة له .هي شيء كالسهل الممتنع ، سلاسة في التعابير
و حكم بليغة عميقة معبرة زائد لغة محكية عفوية. تشعر براحة نفسية خفية و
أنت تردد أهزوجة بسيطة أو مقطع صغير من رباعياته . و بالذات عندما تكون
واقعاً تحت ضغط حياتي يومي معين .
قيل
أن صلاح جاهين تردد كثيراً في تقديم رباعياته كموشحات غنائية بسيطة ، و
بعضهم عرض عليه أسماء معينة ، ولكنه كان متردداً دائماً في ذلك ، كأنه و هو
صانع هذه الرباعيات و مبدعها يدرك أن من يؤديها و يتصدى لها يجب أن يكون
شخصاً مميزاً غير عادياً و مناسباُ لها هي بالذات و يختلف عن غيره من
المغنين ، فجاءت اللحظة المناسبة و تحقق له ذلك عندما أعطيت هذه الرباعيات
للمغني الرائع الكبير في مضمونه علي الحجار . و علي الحجار هذا لا أستطيع
أن أراه إلا جبلاً شامخاً .. طوداً كبيراً ، له سمة خفية لا يتميز بها ،
غيره هو من كل المطربين و المغنين . قيل أيضاً أن علي الحجار لم يغن أبداً
بعد هذه الرباعيات و كانت هي آخر روائعه كمغني مثقف واع هادف . و جاءت روعة
هذه الرباعيات عندما أداها العملاقان الكبيران معاً ، صلاح جاهين و علي
الحجار . صلاح جاهين يؤدي بطريقة النثر أو الزجل دونما موسيقا أو غناء و
يعقبه علي الحجار مؤدياً بالغناء قسم آخر من الرباعيات مكملاً و مفسراً بالغناء ما قاله صلاح جاهين .
تبدأ
الرباعيات بحكمة أو نظرية أو رؤية لصلاح جاهين أو فلسفة ، سمها ما شئت ،
تقول بأن الإنسان هو بالعموم مسيّراً بأفعاله و ليس مخيرا ًبها . و هو
بنظري تهيئة للمستمع لتقبل و فهم باقي حكم و مآثر الرباعيات . ونبدأ بمقاطع
هذه الرباعيات :
ـ ( 1 ) ـ
يبدأ صلاح جاهين بصوته الأبوي الحنون الع
اطفي قائلاً :
اطفي قائلاً :
عجبي عليك عجبي عليك يا زمن
يا بو البدع يا مبكي عيني دماً
إزاي أنا أختار لروحي طريق
و نا اللي داخل في الحياة مرغماً
عجبي
يعقبه علي الحجار بصوته الرخيم الجميل مغنياً
حاسب من الأحزان و حاسب لها
حاسب على رقابيك من حبلها
رح تنتهي و لا بد رح تنتهي
مش انتهت أحزان من قبلها
عجبي
يعود صلاح جاهين ليثبت مقولة القضاء و القدر في هذه الدنيا قائلاً :
مرغم عليا يا صبح مغصوب يا ليل
لا دخلتها برجليا و لا كان ليا فيها ميل
شايلني شيل دخلت أنا في الحياة
و بكره حاخرج منها شايلني شيل
عجبي
يتابع علي الحجار بصوت متماوج بين الرخامة و الجهور :
يأسك و صبرك بين إيديك و أنت حر
تيأس ما تيأس .. دي الحياة رح تمر
أنا دقت من ده و من ده .. عجبي
لقيت .. اليأس مر .. و برضك الصبر مر .. عجبي
رباعية جميلة فحواها يتناول الإنسان الطموح في الحياة ، الذي يصطدم
بعراقيل كثيرة و من أوجه متعددة قد تقوده إلى الانهيار أو اليأس أو القنوط
في أحسن وجه ، فيخفف الحزن عنه إدراكه أن للحياة قوانينها . فمجرد دخول
الإنسان و مجيئه رغماً عنه إلى الحياة محمولاً على الأيدي ( شايلني شيل ) و
خروجه منها رغماً عنه أي بموته
( حاخرج منها شايلني شيل ) تعبير عن
اللاإرادة لدى هذا الإنسان و عبارة ( شالني شيل ) تعبير دقيق عن اللاإرادة
وليس كما يتوهم البعض ، المصير المحتوم للإنسان . و مجرد أن انبلاج الصباح و
هبوط الليل في دورة متعاقبة أبدية و عملية إجبارية قسرية لا خيار للإنسان
فيها ، هو دليل على القناعة بمبدأ الحتمية المسيّر المهيمن على الإنسان . و
يعلل علي الحجار موضحاً أن الحل النهائي هو الصبر أو اليأس ، محذراً من
الحزن و أثره القاتل المميت على الإنسان ( حاسب على رقابيك من حبلها ) و
الإنسان هنا مخيراً فيما بينهما وله ملئ الإرادة ( يأسك و صبرك بين إيديك و
أنت حر ) و الحياة لن تتوقف لأجل ذلك . ثم يواسي قائلاً إن الاثنين لهما
الأثر و المرارة ذاتها .
ـ ( 2 ) ـ
صلاح جاهين :
قالوا الشقيق بيمص دم الشقيق
والناس ما هّياش ناس بحق وحقيق
قلبي .. رميته وجبت غيره حجر
داب الحجر ورجعت قلبي رقيق
عجبي
والناس ما هّياش ناس بحق وحقيق
قلبي .. رميته وجبت غيره حجر
داب الحجر ورجعت قلبي رقيق
عجبي
علي الحجار مغنياً :
ياللي أنت بيتك قش مفروش بريش
تقوى عليه الريح .. يصبح ما فيش
عجبي عليك.. حواليك مخالب كبار
و مالكش غير منقار و قادر تعيش
عجبي
آفة
العصر ، و ربما كل العصور منذ ظهور البشر و إلى الآن .. الظلم و القهر و
هضم الحقوق . آفة تتمنطق بحزام الخبث و الاحتيال و والنفاق ما يخرج صاحبها
عن طور الإنسانية و مضمونها ( الناس ماهياش ناس بحق و حقيق ) فيحاول
الإنسان الطيب القلب صاحب النخوة المتأصلة أن يجاري المجتمع و ناسه الظلمة
متشبهاً بهم ، و ذلك فقط من منطلق الدفاع عن نفسه و لكن يكتشف أن ذلك خارج
عن إرادته و أنه لا يستطيع فكاكاً من معدنه الأصيل فيعود كما كان . و جاهين
يتحدث هنا عن مفهوم الطبع لدى الإنسان ، بإيجابيته أو سلبيته . أو المعدن .
و يتابع علي الحجار بغنائه مشبها المجتمع بالغاب أو ما يعرف بـ ( مجتمع
الغاب ) مشبهاً هذا الإنسان الطيب القلب الذي يمسى باللهجة المصرية ( على
نياته ) بذاك العصفور الصغير الذي يعيش في غابة وسط الجوارح و اللواحم
المفترسة يصارع بجهد للبقاء محمياً بقانون الطبيعة الخفي .
ـ ( 3 ) ـ
صلاح جاهين :
إنشد يا قلبي غنوتك للجمال
و ارقص في صدري من اليمين للشمال
ما هواش بعيد تفضل لبكرة سعيد
ده كل يوم فيه .. ألف ألف احتمال
عجبي
و ارقص في صدري من اليمين للشمال
ما هواش بعيد تفضل لبكرة سعيد
ده كل يوم فيه .. ألف ألف احتمال
عجبي
علي الحجار منشداً :
أهوى الهوا و همس الهوا في العيون
وبسمات المغرم و دمعه الحنون
وزلزلات الهوا نهد الصبا
أكون أنا المحبوب أو لا أكون
عجبي .
حكمة
استغلال الفرصة السانحة للمرح والسعادة على مبدأ ( اعمل لدنياك كأنك تعيش
أبداً و لآخرتك كأنك تموت غداً ) أو الحكمة القائلة ( إذا أتاك يوم السرور
فلا تدعه لأن يوم الغم إذا أتاك ، فلن يدعك ) أو المثل الشعبي القائل (
ساعة لك و ساعة لربك ) فالإنسان لا يعرف ما يخبئ له القدر و لاالمستقبل
الذي هو غداً ( ده كل يوم فيه ..
ألف ألف احتمال ) . فيطرح علي الحجار على الإنسان الذي لا يجد ما يستطع أن
يرفه به عن نفسه إلا الحب البريء من دون خجل ، لأن الحياء لا ينفع هنا (
أكون أنا المحبوب أو لا أكون ) .
ـ ( 4 ) ـ
صلاح جاهين :
جالك أوان ووقفت موقف وجود
يا تجود بده با قلبي .. يا بده تجود
ما حد يقدر يبقي على كل شئ
مع إن عجبي .. كل شئ موجود
عجبي
يا تجود بده با قلبي .. يا بده تجود
ما حد يقدر يبقي على كل شئ
مع إن عجبي .. كل شئ موجود
عجبي
علي الحجار منشداً :
أنا اللي بالأمر المحال اغتوى
شفت القمر نطيت لفوق ف الهوا
طلته ما طلتوش إيه انا يهمنى .. و ليه
ما دام بالنشوة قلبي ارتوى
عجبي
فلسفة
فكرية و حكمة عميقة معبرة ، فمفهوم الموقف في الحياة يختلف عن القرار أو
رد الفعل أو العفوية . الموقف مرهون بأمرين اثنين لا ثالث لهما الأول هو
وقوفه على مفترق طريقين حصراً أو ما يعرف بالثنائية القطبية التي تميز نظام
هذا الكون و قوانينه و مصطلحاته العلمية ( يا تجود بده يا قلبي .. يا بده
تجود ) . الأمر الثاني هو اقتران الموقف بقضية جوهرية محورية هامة تحدد
مسار الشخص و تركيبته و حياته أحياناً . و مستوى أدنى من ذلك هو ليس بموقف
بل فعل عادي أو ردة فعل . الموقف لحظة محورية هامة لا مجال لشخص أن يناور
فيها أو يحتال أو يلبس القناع ، بل سيظهر ما بداخله في الموقف ، و في
الموقف فقط تظهر حقيقة و معدن الشخص . و محتم على الإنسان أن يمر بموقف ما
من حياته يكشف حقيقته ( جالك أوانك و وقفت موقف وجود ) . بعد ذلك يتابع علي
الحجار بالغناء بحكمة رائعة جداً ربما قد لا يكون لها علاقة بمفهوم الموقف
أعلاه ، و لكنها رائعة عندما تتناول قضية المتعة البريئة الطبيعية لدى
الإنسان .. المتعة الخاصة الشخصية التي ينتقدها الغير المليء بالعقد .
هنالك من يحب الثياب القديمة و يجد متعته فيها هنالك من يحتاج إلى الضحك
فجأة بقوة و عمق و من دون أسباب و لكنه يحس براحة و الأهم من ذلك و ذاك ،
أن هنالك من يدرك حقيقة أنه فاقد لخلق شعور المتعة و الضحك لديه بسبب عجز
مادي أو ما شابه ، فيحاول بكل بساطة أن يخلق لنفسه هذا الحس لكي ينفس عن
مكبوتاته . و يرتبط هذا مع المقطع في الرباعية الأولى ( حاسب من الأحزان و
حاسب لها ) .
ـ ( 5 ) ـ
صلاح جاهين :
عينى رأت مولود على كتف أمه
يصرخ .. تهنّن فيه
يصرخ .. تهنّن فيه
يصرخ .. تضمه
يصرخ .. تقوله يابنى ما تنطق تقول كلام
ده اللي ما يتكلمش .. يااا كتر همه
عجبي
يصرخ .. تقوله يابنى ما تنطق تقول كلام
ده اللي ما يتكلمش .. يااا كتر همه
عجبي
علي الحجار منشداً :
العشب طأطأ للنسايم و نخ
أخضر طري مالوهش في الحسن أخ
عصفور عبيط .. عبيط أنا ..
غاوي بهجة .. بهجة و غنا
حانزل هنا .. و انشا لله يهبرنى فخ
عجبي
حانزل هنا .. و انشا لله يهبرنى فخ
عجبي
الإنسان
المقهور المكبوت لابد له من الكلام و لو مع نفسه و لو صرخ في داخل أعماقه و
لا بد له أيضاً لمن يتكلم معه و تحديداً من يحدثه عن حزنه و لوعته . و بدت
عبقرية جاهين هنا في أنه حول كلامه عن تلك المرأة إلى لوحة زيتية أو
جدارية تدخل إلى مخيلة المرء فوراً و تبدأ بالتشكل .أنا شخصياً تخيلتها
امرأة بجلباب أسود ، مسكينة فقيرة .. أرملة أو مطلقة و لكنها تحمل هموم
الدنيا و ضيقها و ضيق أفقها . تجوب الشوارع بحثاً عن عمل أو دخل و تستعطي
مروءة الناس و شهامتهم للمساعدة فلا تجد من معين و لا مجيب . و ابنها على
كتفها يصرخ من الجوع أو العطش في أذنيها مباشرة بشكل مزعج . فيصل بها ( لا
حظوا تعبير صلاح جاهين ) الألم و الضيق و الكبت إلى الانفجار و بلحظة عفوية
معبرة عن كل مكنونات الألم ، لا لتطلب الماء أو الدواء أو الطعام لابنها ،
بل تتجه مباشرة له هو طالبة منه أن يكلمها لأنها في هذه اللحظة بالذات
بحاجة إلى الكلام ، إلى من يكلمها و يحدثها عن همومه و مآسيه و إلى من
تكلمه هي أيضاً فلا تجد غير ولدها لتصرخ بوجهه هي الأخرى طالبة منه الكلام .
هنا
ينشد على الحجار مقطع آخر من الرباعية معبراً عنه بمشهد مماثل للمشهد
الأول و هو عصفور جميل صغير وحيد مسكين خائف مذعور من الأعداء الكثر
المحيطين به من الجو أو الأرض . و فجأة يرى العشب المتماوج أمامه و بلحظة
شهوة للمتعة يقرر المجازفة و يعرف أنه يرتكب بذلك خطأ فادحاً قد يودي
بحياته . فيقرر النزول . و هنا تعبير عن الانتحار أو عيش لحظة الحياة
الحقيقة المحروم منها خاصة و أنه عصفور مغرد يهوى الحرية و الغناء في
الهواء الطلق .
ـ ( 6 ) ـ
صلاح جاهين :
إنسان أيا إنسان ما أجهلك
ما أتفهك فى الكون و ما أضألك
شمس وقمر وسدوم وملايين نجوم
وفاكرها يا موهوم مخلوقة إلك
عجبي
ما أتفهك فى الكون و ما أضألك
شمس وقمر وسدوم وملايين نجوم
وفاكرها يا موهوم مخلوقة إلك
عجبي
علي الحجار منشداً :
فتحت شباكى لشمس الصباح
ما دخلش منه غير عويل الرياح
و فتحت قلبي عشان أبوح بالألم
ما خرجش منه غير محبة و سماح .. سماح
عجبي
الإنسان
الذي يصل إلى مرحلة الغرور فيعتقد أنه ملك نواصي الأشياء و الأمور و أسرار
الكون و الطبيعة و ما بدا لي هنا أن الغرور الذي يتحدث عنه جاهين لا يقتصر
بالضرورة على الجاه و الغنى فقط ، بل يكون في أدنى الناس و هو ما يعرف
بغرور المعرفة أو ادعاء العلم على مبدأ ( قل لمن ادعى في العلم معرفة ..
علمت شيئاً و غابت عنك أشياء ) ، مغزى الرباعية هنا ، يتناول قضيتين
بالنسبة للإنسان هما الجهل و الضعف . الضعف لضآلة الإنسان في هذا الكون و
ضآلة تأثيره بالأرض التي يعيش عليها فكيف بالكون ، و جهله هو من منطلق
إدراكه أنه يعرف كل شيء وأن هذا الكون مسخر له هو فقط ( و فاكرها يا كر
مخلوقة إلك ) . يعقب علي الحجار بتأثر هذا الجهل و الضعف على البشر إذا
ينتج بشر ضعاف جهلة و بالنتيجة هم أشرار مؤذين للمجتمع الذي يعيشون به و
لمن حولهم من بشر . و يتم التعبير عن تلك الرؤية بلوحة تعبيرية رائعة ..
يستيقظ في الصباح فيرى الجو صحو و ربيع و الشمس ساطعة فيفتح الشباك ليدخل
منه ضياء الشمس و رائحة الربيع ليفاجئ ( لاحظ الدقة في التعبير و الوصف )
بعويل الرياح والعويل هو للذئاب و الثعالب . الصورة واضحة .. البشر هم
المسؤولون عن الكوارث البشرية و ليس الطبيعة .
ـ ( 7 ) ـ
صلاح جاهين :
نفسي أعيش و لو في الغابات
أصحا زي ما ولدتني أمي .. و أبات
طير .. حشرة .. بشر .. بس أعيش
ما أحلا الحياة .. و لو في هيئة نبات
باختصار
شديد .. هروب من الحياة القاسية الظالمة .. هروب من البشر الأشرار . يصل
الأمر بالفقير المعدم أو الخائف إلى الشعور بعفوية الحيوانات و طيبتها
فيتمنى العيش معها حيث الهدوء و الطمأنينة . ينتاب الكثير أحياناً هذا
الشعور . ألا تر كيف يهرب الإنسان في عطلة نهاية الأسبوع إلى الطبيعة
مصطحباً عياله و طعامه .
ـ ( 8 ) ـ
صلاح جاهين :
ليه ياحبيبتي ما بينّا دايماً سفر
ده البعد ذنب كبير لا يغتفر
ليه يا حبيبتي ما بينّا دايماً بحور
أعدي بحر ألاقي غيره اتحفر
عجبي
ده البعد ذنب كبير لا يغتفر
ليه يا حبيبتي ما بينّا دايماً بحور
أعدي بحر ألاقي غيره اتحفر
عجبي
علي الحجار منشداَ :
بحر الحياة مليان بغرقى الحياة
صرخت .. خش الموج في حلقي ملاه
قارب نجاه صرخت .. قالوا مفيش
غير بس هو الحب بس هو الحب قارب نجاه
عجبي
الحياة
لا بد لها من الحب ، أحبوا بعضكم أيها البشر أيها الناس . يقول الإمام علي
بن أبي طالب " أحبب أخيك الإنسان فإنه إن لم يكون أخوك في الدين ، فهو
نظيرك في الخلق " . الحب لابد منه حتى و لو كان بين حبيب و حبيبته ، فهو
يمثل راحة نفسية لكل الداخلين في سلطانه . و لهذا تحدث جاهين عن ألم الفراق
و البعد بينه و بين حبيبته فهو لا يستطيع أن يعيش الحب لعدم توفر الحبيب
أو بعده عن العيان . و يأتي علي الحجار مكملاً بأن الحب بكل أنواعه هو
الشفاء و النجاة لكل الناس . فبالحب يكون الإيمان .
ـ ( 9 ) ـ
صلاح جاهين :
حبيت .. لكن حب من غير حنان
وصاحبت لـكن صحبه مـالهاش أمان
رحت لحكيم وأكتر لقيت بلوتى
إن اللي جوه القلب مش ع اللسان
عجبي
وصاحبت لـكن صحبه مـالهاش أمان
رحت لحكيم وأكتر لقيت بلوتى
إن اللي جوه القلب مش ع اللسان
عجبي
النفاق
.. آفة المجتمع و آفة البشرية منذ القدم . النفاق هو أن تظهر ما لا تبطن
.. هو أن تكون دعي مدعي . هو أخطر من الكذب . و يعبر جاهين في تعبير صادق
صائب عن موضوع النفاق بالمريض الذي يذهب إلى الطبيب يشكو خداع و خيانة
الناس و المحبين له فيعرف أن المشكلة تنحصر في أن ما يظهره له هؤلاء بالحب و
الصداقة و الإخلاص على ألسنتهم ، هو غير ما في قلوبهم .
ـ ( 10 ) ـ
صلاح جاهين :
ورا كل شباك آلف عين مفتوحين
وأنا وأنتي ماشيين يا غرامي الحزين
لو التصقنا نموت بضربة حجر
ولو افترقنا نموت متحسرين
عجبي .
تعبير
عن المجتمع المتعصب المتزمت ( ورا كل شباك ألف عين ) الذي لا يستطيع
التفريق بسبب تعصبه و جهله ، أن يفرق بينما هو طاهر بريء و بينما هو رذيلة
وفاحشة نكراء . فإذا أراد هذا الشاب أن يكلم حبيبته أو خطيبته أو حتى
صديقته في الشارع ( التصقنا ببعض ) بكلام عادي بريء فإنه معرض للإساءة أو
البهدلة و الفضيحة و حتى الضرب ربما بتهمة الزنا المباشر . و إن لم يتكلما
مع بعضهما تبقى الحسرة بينهما ، فيمشيان في الشارع كأنهما لا يعرفان بعضهما
بعضا ( أنا وأنتي ماشيين يا غرامي الحزين ) .
ـ ( 11 ) ـ
صلاح جاهين :
أنا قلبي كان شخشيخة أصبح جرس
جلجلتله .. صحيوا الخدم .. وقفوا الحرس
أنا المهرج .. قمتوا ليه ؟؟ .. خفتوا ليه ؟؟
لا فإيدي سيف .. و لا تحت مني فرس
عجبي
تعبير
عن مجتمع الغيتو المنغلق على نفسه فكرياً و عقلياً . المتعصب المتمسك
بخرافات و تقاليد بالية لا يقبل حتى مجرد النقاش بها . تعبير رائع ظهر فيه
إبداع صلاح جاهين بالتعبير عن المجتمع الخائف حتى من مجرد السوآل البسيط
الذي من الممكن أن يثير بلبلة فكرية في هذا المجتمع الهش المليء بحراس
الهيكل . تعبير عن المجتمع الجاهل الذي لا يقبل بالثقافة و لا التنوير و لا
القراءة التي تنير قلب الشخص و تفتح مداركه على السوآل و الاستفسار ( أنا
قلبي كان شخشيخة أصبح جرس ) . فمجرد السوآل و الاستفسار يستدعي استنفار
حراس الهيكل و جوقة المتملقين الطفيليين المستفيدين من الوضع الراهن . (
جلجلتله صحيوا الخدم و قفوا الحرس ) تشبيه رائع للعقل بالجرس الذي يطن
معبراً عن ورود فكرة أو خواطر أفكار هي برسم التساؤل .
ـ ( 12 ) ـ
صلاح جاهين :
يا حزين يا قمقم تحت بحر الضياع
حزين أنا زيك وإيه مستطاع
الحزن ما بقالهوش جلال ياجدع
ده الحزن زيه البرد زي الصداع
عجبي
حزين أنا زيك وإيه مستطاع
الحزن ما بقالهوش جلال ياجدع
ده الحزن زيه البرد زي الصداع
عجبي
لوحة
زيتية قاتمة الألوان للحزن عند الإنسان المحروم و المكبوت .. العاجز ..
المتألم . هذه المرة ارتبط الحزن عند صلاح جاهين بالألم النفسي و الضغط و
الحصر لاحظ العبارة ( قمقم تحت بحر ) التي تبعث على القشعريرة ، تخيل نفسك
في قمقم ( وعاء نحاسي صغير كالفانوس ) مدفون تحت بحر . هذه هي حالة الحزين
المحروم و المجتمع الذي يعيش فيه ، هو بحر الضياع الذي ذكره جاهين . و لكن
جاهين يحاول تعزية هذا الإنسان فيخربه انه مثله و لا حيلة له في تقديم أية
مساعدة له . و يضيف عبارة مهمة جداً و هي أن الحزن لم يعد له تلك الهالة
كما في الماضي أو تلك الأسباب الفظيعة التي تسبب بل أصبح حالة اعتيادية
كئيبة سوداء كما الصداع و البرد .
ـ ( 13 ) ـ
صلاح جاهين :
ولدي .. إليك بدل البالون مية بالون
انفخ وطرقع فيه على كل لون
عساك تشوف بعينك مصير الرجال
المنفوخين في السترة و البنطلون
عجبي .
واضحة و لا داعي للشرح .
ـ ( 14 ) ـ
صلاح جاهين :
دخل الربيع يضحك لقاني حزين
نده الربيع على اسمي لما قولت مين
حط الربيع أزهاره جنبي و راح
وش تعمل الأزهار للميتين ؟؟
عجبي
نده الربيع على اسمي لما قولت مين
حط الربيع أزهاره جنبي و راح
وش تعمل الأزهار للميتين ؟؟
عجبي
علي الحجار منشداً :
الدنيا من غير الربيع ميتة
ورقة شجر ضعفانة و مفتته
لا يا جدع غلطان تأمل وشوف
زهر الشتا طالع في عز الشتا
عجبي
ورقة شجر ضعفانة و مفتته
لا يا جدع غلطان تأمل وشوف
زهر الشتا طالع في عز الشتا
عجبي
الفقير
الذي لا يملك أسباب و مقومات السعادة المادية التي يؤدي فقدانها ، إلى
فقدان السعادة و المناعة النفسية . تماماً كما المريض الذي يصل إلى حالة
حرجة و لا بنفع معها علاج و لا محاباة . يعكس على الحجار الصورة محاولاً
إضفاء نوع من الأمل بأنه من دون الربيع لا وجود للسعادة و أنه لو بحث
الإنسان الكئيب المتشاءم عن مصدر سعادة ذاتي لربما يراه .
ـ ( 15 ) ـ
صلاح جاهين :
أنا شاب لكن عمري ولا ألف عام
وحيد ولكن بين ضلوعي زحام
خايف ولكن خوفي منى أنا
أخرس ولكن قلبي مليان كلام
عجبي .
وحيد ولكن بين ضلوعي زحام
خايف ولكن خوفي منى أنا
أخرس ولكن قلبي مليان كلام
عجبي .
علي الحجار منشداً :
لو فيه سلام في الأرض وطمان و أمن
لو كان ما فيش و لا فقر و لا خوف و جبن
لو يملك الإنسان مصير كل شيء
ده أنا كنت أجيب للدنيا ميت ألف ابن
عجبي
رائعة
من روائع صلاح جاهين .. الإنسان العاجز المحاصر بتقاليد و قوانين خفية أو
ظاهرة تكتم عليه أنفاسه فتقتل فيه الإبداع بل و حتى الكلام ، فيبدو كإنسان
أحمق جاهل متخلف . و لكنه حقيقة بركان كامن ملتهب من الإبداع و الذكاء .
يعلق علي الحجار بأنه لو أتيح للإنسان الأمن و الحرية لفعل العجائب .
ـ ( 16 ) ـ
صلاح جاهين :
سَهّير ليالي و ياما لفيت و طُفت
و ف ليلة كنت راجع في الظلمة قمت شفت
الخوف كأنه كلب سد الطريق
و كنت عاوز أقتله بس ..خفت
عجبي
و ف ليلة كنت راجع في الظلمة قمت شفت
الخوف كأنه كلب سد الطريق
و كنت عاوز أقتله بس ..خفت
عجبي
شبيهة
بالتي قبلها و لكن اللوم هنا يقع على الإنسان نفسه لأنه قد تحصلت له فرصة و
أضاعها . هو موقف شبيه بموقف موسى النبي عندما ربح معركة السحر مع فرعون و
لكن الجمهور الخائف المتفرج آنذاك منعه خوفه من اتخاذ أي قرار .
ـ ( 17 ) ـ
صلاح جاهين :
يا طير يا عالي في السما طظ فيك
ما تفتكرش ربنا مصطفيك
برضك بتاكل دود و للطين تعود
تمص فيه يا حلو و يمص فيك
عجبي
ما تفتكرش ربنا مصطفيك
برضك بتاكل دود و للطين تعود
تمص فيه يا حلو و يمص فيك
عجبي
الغرور الذي يصيب الإنسان الزائل و الفاني من هذه الدنيا ، هو الغرور الممتزج مع الجهل عادة .
ـ ( 18 ) ـ
صلاح جاهين :
لا تجبر الإنسان ولا تخيره
يكفيه ما فيه من عقل يحيره
اللي النهارده يطلبه و يرضاه
هوه اللي بكره حا يشتهى يغيره
عجبي
يكفيه ما فيه من عقل يحيره
اللي النهارده يطلبه و يرضاه
هوه اللي بكره حا يشتهى يغيره
عجبي
واضحة و إن كانت تحمل في مضمونها لمحة خفية إلى أن العقل البشري قد يكون هو السبب في مشاكل البشرية .
ـ ( 19 ) ـ
صلاح جاهين
كرباج سعادة وقلبي منه انجلد
رَمَح كأنه حصان .. و لف البلد
و رجع لي آخر الليل و سألني
ليه خجلان تقول انك سعيد يا ولد
عجبي .
رَمَح كأنه حصان .. و لف البلد
و رجع لي آخر الليل و سألني
ليه خجلان تقول انك سعيد يا ولد
عجبي .
علي الحجار :
غمست سنك في السواد يا قلم
عشان .. تكتب شعر يقطر ألم
مالك جرالك إيه يا مجنون
و ليه ؟؟ رسمت ورده وبيت و قلب و علم
عجبي
تعبير قمة في الروعة و الجمال المضمون
، قد يلفه الغموض قليلاً و لكنه يحوي حكمة بليغة تعبر عن أن الإنسان حتى و
لو كان في وضع مزرٍ أو صعب ، فعليه ألا يكبت جوانح السعادة الموجودة في
دواخله ، و عليه ألا يخفي موقف ما في الحياة رآه أمامه أو سمع به فأضحكه و
أسعده . من جانب آخر ترى هنالك أشخاص لديهم كل مقومات السعادة و الرفاهية
المادية و النفسية و يعيشون مواقف و لحظات المرح و الترفيه ، و لا يتعرضون
لمواقف الانزعاج ربما إلا لماماً أو ربما لا يتعرضون لها ، و مع ذلك تراهم
يضنون بمشاعر البهجة أو الفرحة . مثل هكذا أشخاص .. كما يضنون بالسعادة ،
مؤكد أنهم يضنون بعمل الخير و فعله . و يشبه علي الحجار ذالك الإنسان
المهموم المحاصر بمشاكل و هموم الحياة اليومية ، يشبهه بالقلم الذي يأخذ
مادته من المداد الأسود القاتم . هذا المداد الذي إذا سقط على قطعة ثياب
لشوهها و أوسخها و ترك بقعة نشار فيها . فكان المتوقع من القلم عندما
استخلص مداده الأسود ، أن يرسم الشوك و يجسد الألم ، و لكنه فعل العكس و
رسم بهجة الحياة و بهجة النفس و اخرج دواخلهما الجميلة إلى العلن . فطوبى
لك يا صلاح جاهين و رحمة الله عليه أينما كنت و أينما حللت .. لك منا
التحية . و برباعيتك التالية تلك نختم مقالتنا هذه
صلاح جاهين :
يا عندليب ما تخافش من غنوتك
قول شكوتك و احكي على بلوتك
الغنوة مش حا تموتك
إنما كتم الغنا هوه اللي حا يموتك
عجبي
قول شكوتك و احكي على بلوتك
الغنوة مش حا تموتك
إنما كتم الغنا هوه اللي حا يموتك
عجبي
0 التعليقات:
إرسال تعليق