عــــــــــــــــــــــلي الحجار
مطرب المثقفين وأخر فرسان الأغنية العربية
مدخل:
"بصعوبة بالغة وبمساعدة أحد المارة الكبار تمكن الطفل الصغير ذو العاشرة (علي إبراهيم) أن يصل إلى صندوق البريد ليضع بداخله رسـالة إلى رئيس الجمهورية يصف له فيها الظلم الذي وقع على والده الذي طرد من الإذاعة المصرية لرفضه تغيير لقب عائلته (الحجار)، وكتب الطفل علي أيضاً في هذه الرسالة ببراءة الأطفال عن صوت أبيه الجميل، وعن المعاناة التي تعيشها الأسرة جراء فقد عائلها الوحيد لعمله، وطلب إلى الزعيم الخالد (جمال عبد الناصر) رئيس الجمهورية حينها أن يتدخل لإعادة والده إلى وظيفته كمطرب في الإذاعة المصرية ......... لتمر الأيام ويذهب (جمال) ويكبر (علي)، ولنعرف نحن فيما بعد أن هذه الرسالة لم تصل أبداً إلى يدي الزعيم"...
وما ورد أعلاه كان المشهد الأول من قصة كفاح إنسانية لا تزال حية، وأزعم أنني سأجيد روايتها عليكم.
كيميـاء الصـوت
ما الذي يجعلنا أحياناً ومنذ الوهلة الأولى نحب صوتاً غنـائياً ونــكره -على وجه الخصوص- أخر قبل أن نفكر في الاستماع ولو على عجل إليه، لنستطيع الحكم على هذا الصوت أو ذاك، ومبعث سؤالي هذا هو ما أسمعه أينما ذهبت من انطباعات الناس حول الفنان (علي الحجار) والفن. وصدقوني أن عملية البحث عن تفسيرات مقنعة لكل هذا التجني المستفز وغير المبرر أصلاً عملية شاقة ومعقدة، فكيف لنا مثلاً أن نقتنع أن عـلي الحجار يغني في طبقات صوتية معينة لا تتآلف معها أذان المستمعين مثلاً وحتى بالنسبة لمسألة اختلاف الأذواق -التي قد يشير إليها البعض– قد تجعلنا لا نعجب بفنان ما لكنها لا تبرر إطلاقاً ألا نطيق رؤيته أو سماعه، وحتى سماع اسمه كما يحدث فعلاً مع علي الحجار، وربما ليس من تفسير أخر ومعقول سوى كيمياء القبول والنفور التي تدفعنا إلى الحب والكره قبل أن نفكر ونحكم لكن هذا الموضوع لا ينتهي هنا، لأن فناناً أظنه صاحب تاريخ مشرف كعلي الحجار لا يستحق أن نتجاهله فما بالكم بالتجني عليه. فإلى كل الرافضين لعلي الحجار أنصفوه أم لا وإلى كل محبيه هذه بعض صفحات من تاريخ هذا الفنان بمحاسنها ومساوئها علها تشفع له في زمان صار فيه الحجار والحلو ومنير وقلة قليلة أخرى معهم من يدافعون وحدهم عما تبقى من قيم الذوق في مواجهة الحضور الطاغي لـ(شعبولا) ورفاقه.
طفــولة قـــــــاسية
كانت عائلة (إبراهيم الحجار) ذات الأصول الصعيدية هي أخر من يحمل لقب (الحجار) في مصر كلها، وفي منزل العائلة المتواضع بحي إمبابة الشعبي في القاهرة توجب على هذه الأسرة أن تواجه بصبر وضعاً اقتصادياً مزرياً بعد ما فقد الأب (إبراهيم) عمله -كما أسلفنا– بل وفقد معه القدرة والرغبة في الغناء لإحساسه بالظلم الذي أصابه، وهكذا توجب على (علي الحجار) أن يعمل كصبي مكوجي في سن صغيرة ليساهم في مصروف البيت قبل أن تكتشفه أمه وتوبخه، لكنه في المرة التالية بفضل موهبته في الرسم لبيع لوحات صغيرة لأطفال الحارة مقابل قروش قليلة، وطيلة دراستهما الجامعية اكتفى (علي الحجار) وشقيقه الموسيقار (أحمد الحجار) بالتناوب على بنطالين وقميصين فقط لأن وعيهما التام بحالة الأسرة كان يمنعهما من طلب أي شيء لنفسيهما.
رحيل نجم وبزوغ أخر
لا شك في أن العام 1977م من الأعوام الحزينة بالنسبة للعرب موسيقياً على الأقل لأنه العام الذي شهد رحيل العندليب عبد الحليم حافظ. هذا الرحيل الذي ولد فراغاً لا يستهان به في الساحة الغنائية، ومهد الطريق بشكل أو بأخر للكثير من الوجوه الشابة حينها للظهور والانتشار، وكان أحد هذه الوجوه شاباً نحيلاً أشاد به (حليم) نفسه ذات يوم، ووضعه قدره في طريق واحد من أهم المؤثرين في مسيرة الكثير من الفنانين العرب هو الموسيقار العبقري الراحل (بليغ حمدي) والذي كان وقتها مشرفاً على تدريب (علي الحجار) و(محمد منير) و(محمد الحلو) في فرقة التخت الشرقي بمعهد الموسيقى العربية، وبعد سنتين من اختيار الكلمات والألحان أطلق (بليغ حمدي) مفاجأة رائعة اسمها (علي الحجار)، والذي غنى على ألحانه السلسة من كلمات الشاعر الغنائي الكبير (عبد الرحيم منصور) في أغنية (على قد ماحبينا)، وكان الألبوم الأول يتضمن أيضاً أغانٍ كتبها بليغ حمدي بنفسه تحت اسمه المستعار (ابن النـــيل).
علامــــــــــــات فارقة في مشوار ربــع قـــرن
كان حلم (علي الحجار) منذ طفولته أن يغني رباعيات الشاعر والرسام والممثل والكاتب الراحل (صلاح جاهين)، وبعد جهد كبير بذله هذا الأخير في إقناع الموسيقار الراحل (سيد مكاوي) –ملحن الرباعيات وأول من أداها– بإمكانيات (علي الحجار)، وافق سيد مكاوي، وغنى (علي الحجار) بنجاح أكسبه المزيد من الانتشار، وجعله واحداً من أهم المطربين في جيل الوسط، ولم يكتف (علي الحجار) بهذا لأن الدروس الموسيقية لم تكن وحدها ما تعلمه هذا المطرب من أستاذه (بليغ حمدي)، فقد تعلم منه أيضاً كيف أن على الفنان أن يمتلك الفكر والرؤية والموقف بالإضافة إلى الرغبة في التميز والتجديد انطلاقـاً من الحفاظ على هوية الموسيقى والتراث، وأثبت التلميذ نجاحه في الثمانينيات عندما أطلق ألبوم (في قلب الليل) قاصداً به أن يكون نقطة تحول في مسار الأغنية المصرية على مستوى التنفيذ الموسيقي الحديث المستفيد من التقنيات الجديدة، وعلى مستوى الصياغة الموسيقية بألحان كلاً من (مودي الإمام) و(أحمد الحجار) لهدف هام هو تحرير القوالب الشعرية للغناء المصري باللهجة العامية بعدما أدرك -وقتها– بفطنة يثنى عليها أن الابتذال صار أكثر شراسة في غزوه للأغنية العامة، وفي هذا الألبوم حاول علي الحجار مقاومة الأغنيات التي بدأت تتسرب إلى وجدان المستمع بقصد تخريبه، وبعد هذا الألبوم بفترة ذهب (الحجار) أفعل إلى الفعل والتأثير بقوة من خلال أغنيات ألبوم (أنا كنت عيدك) ودوى نجاح الحجار، ويومها غنى الشارع المصري كله:
أنا كنت عيدك
تنقص نجوم السما أزيدك
الفجر يغرق أخد بإيدك
واجمع سواد الألم فيعيني
وأصب نبض الهوا في وريدك
أنا كنت عبدك في غز ضعفك
وكنت يوم التجلي سيدك
أو في أغنية أخرى:
لما الشتا يدق البيبان
لما تناديني الذكريات
لما المطر يغسل شوارعنا القديمة والحارات
مش جاي ألومك عاللي فات
ولا جاي اصحي الذكريات
لكني بأشتقلك ساعات
لما الشتا يدق البيبان
ونجح علي الحجار قبل ذلك وبعــده أيضاً في إعادة تقديم روائع لعبد الوهاب ومحمد فوزي، ويحسب له كذلك موقفه عقب 2 آب 1990م. عندما رفض توزيع شريطه الجاهز الذي حوي أغانٍ عاطفية، وأستبدله بأخر يحمل طابع وطني سيــاسي ليس بهدف المزايدة أو الربح، بل لتسجيل موقف مما يدور، وليرسم لنا صورة جديدة عن (الحجار) الواعي سياسياُ، والملتزم فنياً.
يغني ليلة وفـــاة والده
وبمناسبة الحديث عن الالتزام فإن (الحجار) هو أكثر من وصف ظلماً بعدم الالتزام أو الانضباط، وبتخلفه عن مواعيده إلى أن غنى يوم وفاة والده، نعم غنى لأنه كان مرتبطاً بحفل جامعة الدول العربية، غنى ليس لأنه بلا قلب أو ليقال أنه غنى في يوم عصيب كهذا، لكنه غنى لشعوره بالمسئولية كون الوقت المتبقي للحفل لا يسمح لمنظميه بدعوة فنان أخر، ولأنه شعر بأنه لو لم يذهب للحفل لغضب منه والده، وفي تلك الليلة تحامل علي الحجار على نفسه وغنى دون أن يعلم ضيوف الحفل أنه فقد اعز الناس إلى قلبــه.
عـــــلي الحجـــار.. هل كـــان بالإمكــان أفـــضل مما كـــان
يجمع الكثيرين أن (علي الحجار) يستحق مكــانة أعلى مما هو عــليها، وأن السبب في عدم تحقق ذلك هو الحجار نفسه تارةً لتأثر صوته بالحالة النفسية التي تنتابه، وإن كان هذا من ناحية أخرى دليلاً على صدقه كفنان، وتارة أخرى لخجله الشديد ومجاملته للآخرين على حساب عمله، وعدم تمتعه بالذكــاء الاجتماعي اللازم للفنان الذي يفيده مثلاً في تكوين علاقات مع المنتجين والصحفيين.... الخ.
إن هذا الفشل الذي يعترف به علي الحجار نفسه أدى إلى سقوط أخر ألبوماته، وهو (ريشة) حيث رضخ لبعض الاعتبارات في اختيار أغانٍ لم يكن ليقبل بها لو امتلك القرار، والنتيجة هي فشل ألبومه تقريباً فلا هو احتفظ بطابعه الأصيل، ولا انجرف تماماً مع الموجة الغوغائية.
عــــــلي الحجار.. حــالة دائمة من الفن
تسجل السينما في تاريخ (علي الحجار) أربعة أفلام فقط لا تضيف كثيراً إلى رصيده الفني، وأظن أهمها (الفتى الشرير) مع الفنان (نور الشريف)، إلى جانب رصيد لا بأس به من المسرحيات الغنائية والتجارية أحياناً أبرزها غنائياً ومؤخراً (رصاصة في القلب) لتوفيق الحكيم مع الرائعة (أنغام)، والتي عرضت بنجاح حول العالم العربي، كما أنه في هذا الصيف بطل لعرض مسرحي استعراضي غنائي جديد أسمه (خايف أقول اللي في قلبي)، هذا بالإضافة للبدء جدياً في مشروع توثيق التراث الغنائي المصري من أيام (محمد عثمان) إلى اليوم تحت مسمى (مـائة عام من الغناء) عن طريق إعادة تقديم هذا التراث بتوزيع موسيقي مطور في 14 ألبومــاً غنــــائيأً، وهناك أيضــاً افتتاح معرض للوحات الفنان التشكيلي (علي الحجار)، والذي يضم لوحات عن رباعيات صلاح جاهين مصحوبة بالغناء الحي لهذه الرباعــيات.
خـــاتمة
القصة لم تنته بعد والصفحات أكثر وأكثر، وأخشى أنني أطلت فعلاً، لكن الخلاصة أن هذه الصفحات –من كل التجلي الذي كان لعلي الحجار ذات يوم في أغنية (أنا كنت عيدك) إلى حالة من التوهان في ألبوم (ريشة) نرجو أن تكون قد انتهت فعلاً– تدعو للإصرار والثقة في الحلم، والمقاومة والحب، وهكذا دون تعمد التفكير أفهم الآن لماذا توحي عيني (علي الحجار) بإنسانية كبيرة وبطيبة الدنيا كلها، إلى جانب ذكــاء وبراءة طفل فكر في سن العاشرة أن يبعث برسالة إلى رئيس الجمهورية.
الكاتب: سامر عبد العزيز أحمد
0 التعليقات:
إرسال تعليق