محمد حداد
لن أتكلم عن علي الحجار ولن أصف تجربته التي غمرتني بأحاسيس نادرة جداً منذ بداية الثمانينات. فتجربة شاسعة كتجربة علي الحجار تحتاج إلى وقفة تليق بها. شخص يبحث عن الكلمة النادرة واللحن المختلف لكي يتوجه بالأداء المبهر.
في ألبوم مكتوبالي الذي أصدره عام 1997 والذي كان لكلمات بهاء جاهين حضور غاشم فيه. جاءت أغنية «مطر» التي تحوي قصة في منتهى الذكاء الشعري و اللحني ثم الصوت المعبر الذي أضفى على العمل روحاً نابضة ولون المعاني بأحاسيس راقية وواعية لما تقول.. فلندخل معاً في دهاليز هذه الأغنية.
مطر..
تنسكب نغمات البيانو تصاحبها تآلفات الهارب والجيتار وكأنها حبات المطر تتساقط على سطح من البلور المصقول.. فيتسرب لنا صوت علي الحجار الدافئ وهو يصف الصورة التي تحوي العصفور المبلول رافضاً هذا البلل.. (مطر.. وعصفور ارتعش) تدخل بعد هذا الارتعاش أصوات آلات الكورنو لكي تؤكد الحالة بتآلف متنافر يرتعش له المستمع، عندها نفهم بأن عذابات العصفور ليست بسبب البلل من المطر فقط!! فعند وصفه (اليد الطيبة) التي لجأ إليها هارباً من كل هذا (المطر) نتأكد بأنه يعرفها (من زمان) ويعشقها مؤكداً حالته (بآآآآآآهٍ) قام بأدائها الحجار بطريقة مؤثرة وتحوي كثير من الحرمان والألم، يتصاعد طلبه ليصل إلى رجاء يزداد عنفاً عندما يضطر بأن يذكر أنه منبوذ من جميع (الأشجار)، ولم يجد مكاناً آمناً غير (صاحبة القلب الرقيق)، عندها يعزف البيانو بمصاحبة الهارب لحناً عبارة عن سيكونس (تتابع لحني) هابط يوضح الانكسار والخذلان اللذان يسكنان هذا العصفور، في هذه الأثناء يكتشف بأنه انفعل بشكل يفضح ضعفه (أمامها)، فيهمس لها بصوت لطالما تميز به علي الحجار في أغانيه (خديني في عش الحنان.. ونشفي بشعرك جناحي من المطر)..
يعزف الكورنو النغمة الأساسية للحن معلناً دخول حالة جديدة للجو اللحني، حيث يدخل الإيقاع 68 ممسكاً زمام النبض ويأخذ دوره في سرد التفاصيل الدقيقة لحالة هذا العصفور فيقترح عمر خيرت هنا الإيقاع الشعبي متمثلاً بآلات الطار الذي يستخدم في الطقوس المصرية بأفراحها و أحزانها وخصوصاً في طقس الزار، مصحوباً بتآلفات الآلات النحاسية مع ضربات البيانو، كي يعطي صبغة للأغنية بعد الخروج من الجو القاتم والمبهم لبداية الأغنية، تسنده ضربات آلات التيمباني الضخمة التي تميز خيرت بعشقها منذ إصداراته الأولى.
في المقطع الثاني من الأغنية يحدث شيء في منتهى الروعة، أعتبره شخصياً إضافة جريئة للأغنية العربية بشكل عام، ستظل في ذهن كل من يحمل هم الخروج على القوالب الموسيقية الركيكة و التمرد على كل ما هو تقليدي ولا يجرؤ على التجديد والابتكار، فبعد أن كان الضرب الإيقاعي للفاصل الموسيقي هو 68 يفاجئنا صوت الحجار مع بداية قوله (ليل بعد ليل ونجم ورا نجم اتحدف.. أنا بغني لكن لوحدي للأسف) فبصوته يتغير الضرب إلى 58 بأسلوب سلس لدرجة أنك لن تلاحظ الفرق بين الضربين اللذين يختلفان بشكل كبير عن بعضهما في الأساس، والمصاحبة الموسيقية في هذا المقطع تنسج فضاءً شاسعاً يرسم الصورة الشعرية موسيقياً بكل تفاصيلها، فعند قوله (ونجم ورا نجم اتحدف) يدخل مؤثر صوتي يشعرك بأن السديم الكوني يحيط بعلي الحجار وهو يتغنى بهذا المقطع، والبيانو يصاحب الغناء بنفس اللحن الأساسي مع مشاكسة آلات الترومبيت النحاسية والكورنو الوقور كأنه نحيب الآلهة السري!
لكن بدخول جملة (لحني الجميل مش لاقي إنسان يسمعه) يرجع الإيقاع إلى 68 وهو نفس إيقاع (اللحن الجميل) الذي صاغه خيرت كفاصل لحني بين مقطعي الأغنية! ثم يقفز برشاقة الساحر ليعود إلى إيقاع 58 مرة أخرى وبسلاسة أيضاً ولكن بلحن صارخ يهيجه التيمباني، والترومبيت يفتح الطريق لصرخة يتقنها الحجار قائلاً (ياريته ما اتغنى.. ياريته ما اتعزف) وهنا تأتي كلمة (إتعزف) على لحن فيه نغمة مفاجئة ومتنافرة مع النسق اللحني، تكاد تكون نشازاً، وكأنهما (الحجار وخيرت) يرفضان غناء وتلحين هذا المقطع بأداء متناغم ومتناسق، كي يؤكدا لنا رفض الشاعر في قوله (ياريته ما اتعزف).. يدخل الصمت لبرهة، يكسره تآلف صادر من آلة البيانو كي يمهد للجملة التي تلخص هذه المعاناة التي تجاوزت كل العصافير والأغاني والأشجار الرافضة كي تصبح معاناة كونية، حيث تتلخص في سؤال بسيط كبساطة العصفور وبراءته عندما يقول (إزاي أغني للربيع.. تحت المطر؟)
أغنية تطوي بين حناياها قصصاً كثيرة لعصافير يستعصي إحصائهم.
نفتقد تجارب مثل هذه في منطقة الفن العربي الذي نتعاطاه (وما أصغر هذه المنطقة).
0 التعليقات:
إرسال تعليق