البهجة والضحك الأجوف!
بقلم : د. عبد القادر القط
من الأحداث ما يترك في النفس جرحا غائرا أو أثرا باقيا لا يزول بزوال الحدث نفسه, وإن خادع المرء نفسه فظن أنه نسيه وهو في الحقيقة يتناساه. وقد حاولت في الأيام الأخيرة أن أتناسي ما أشاهد من فظائع في فلسطين ومن ظواهر التفكك والفرقة في النظم العربية, ومن غفلتنا عن أن ما يجري لا يمكن أن يظل محصورا في فلسطين وحدها, بل هو كالانهيار الثلجي يتراكم ويتدافع فيدمر كل شيء في طريقه, وإن لم يكن له مع ذلك نقاء, الثلج إذ هو مصبوغ بالدم! قلت: أصرف عن نفسي كآبتها فأكتب عن بعض ما شاهدت في الأيام الاخيرة من مسرحيات وأختار من بينها عرضا كوميديا راقيا يغسل بالضحكة الصافية ما ثقل علي النفس من كآبة دائمة تصبغ وجوه الحياة علي اختلافها بلون قاتم كئيب! وكنت قد شاهدت مسرحية حلاق بغداد للكاتب المسرحي الكبير الفريد فرج بإخراج جديد يختلف في رؤيته عن عرضها الأول عام1963. واخترت للمقال عنوانا يجمع بين الترحيب بالضحك والحذر من الاستغراق فيه: ما أجمل أن نضحك.. ولكن! لكن الكآبة المستقرة في النفس برزت علي السطح فجأة فغطت علي ما يمكن أن يكون في بعض الضحك من جمال, فبدا كأنه ضحك كالبكا كما يقول الشاعر. ما أجمل أن نضحك ضحكا صافيا صادرا من القلب. لكن أين لنا هذا الضحك الصافي وقد أصبحنا نصطنع الضحك ونتكلفه ثم نعتذر عنه حين تزول لحظة المرح القصيرة ونرتد الي مرارة الواقع؟ وكان شبابنا ـ قبل أن يستعيدوا وعيهم السياسي في الأيام الأخيرة, قد اختاروا من بين وسائل النسيان الكثيرة أن يضحكوا ضحكا أجوف خاليا من أي فكر أو موقف سياسي أو اجتماعي, كما كانوا قد اختاروا لأنفسهم مصطلحاتهم الخاصة في لغة لا يفهمها الكبار ويعجبون لغرابتها أو طرافتها. وقد حمل الي صديق بعض هذه النكات اللفظية الفارغة في صفحتين كاملتين كان ابنه الشاب قد التقطها من أحد مواقع الانترنت. ومنها علي سبيل المثال واحد عداه العيب.. خد اللي بعده.. دعا مدرس زملاءه إلي حفل شاي فقدم اليهم أرقام جلوس سأل المدرس التلميذ ما اسم جوز الهند بالانجليزية؟ فأجاب التلميذ الاجابة الصحيحة: كوكونت. قال الأستاذ: ضعها في جملة مفيدة, فقال التلميذ: كوكونت من الشباك! وعدت أفكر في أمر المسرح وأسترجع مشاهد من مسرحيات رأيتها في الأسابيع الأخيرة فبدا لي أن مخرجي المسرحيات الدرامية الجادة أو الكوميدية الراقية علي السواء, يدركون هذا الميل عند كثير من المشاهدين الي شيء من الترفيه يعدهم لما سيرون من مشاهد يحمل بعضها روح المآسي الانسانية العنيفة, ويقصد بعضها الي النقد الساخر. ولعلهم بتقديم تلك المشاهد من الترفيه المقحمة علي المسرحية أحيانا أو المبالغة في تجسيمها إن وجدت في النص يجارون ما يرون من ميول عند مشاهدي دراما التليفزيون وهم يعدون بالملايين ويختلفون في مستوياتهم الثقافية وميولهم النفسية. وهم غير رواد المسرح الذين يبتغون الي جانب المتعة غذاء للعقل والروح. في الملك لير رقصة جميلة قبل أن يبدأ العرض لكنها ليست ذات صلة واضحة بالمأساة. وفي حلاق بغداد يتعثر المشاهد وهو في طريقه الي قاعة المسرح ببعض عربات اليد يدفعها غلمان في زي غريب كالمهرجين ويبيعون في سوق بغداد ألوانا من سلع مختلفة منها ما بدا لي كأنه زر بطاطا وإن تبين أنه رغيف خبز بغدادي ثمنه دينار واحد. ولم يكن معي دنانير بغدادية ولم يكن في بهو المسرح محل صرافة فاضطررت آسفا أن أدخل الي القاعة دون أن أذوق هذا الخبز الأثري! وفي مسرحية الحلاج التي لم أشاهدها بعد يغني الفنان المعروف علي الحجار, ولا شك في أن المشاهدين سيطربون لغنائه. لكني سألت نفسي: لماذا يقحم الغناء علي مسرحية شعرية ذات طابع أسلوبي رصين لن يصلح للغناء مهما يكن جميلا؟ والمسرحية نفسها مأساة تستغني بأحداثها ومواقفها وشخصياتها عن التزيد, وتتضمن صورا درامية فاجعة للظلم والفقر وفساد القضاء وانحراف السلطة. وقد يكون في بعض مشاهدها ما يصلح لتشكيلات جمالية في الحركة والايقاع كمشهد شهود الزور أمام القاضي الفاسد الضمير صنيع السلطة, فهل يمكن أن يكون غناء علي الحجار تعليقا علي ما يحدث كتلك المقاطع الغنائية المقحمة علي مسلسلات التليفزيون, أحيانا للاطالة وأحيانا للافصاح عن مغزي الأحداث ومصائر الشخصيات؟ وبهذا يكون كرقصة الافتتاح في الملك لير وسوق بغداد وفرقة الموشحات البديعة العزف والغناء في حلاق بغداد؟ لا أدري! ولكني حاولت أن أدري فلم أفلح: كنت حريصا أن أري المسرحية في صورتها الجديدة علي يد مخرج قديم الصلة بمسرح صلاح عبد الصبور هو الفنان المعروف أحمد عبد العزيز الذي تحول ككثير غيره عن المسرح الي المسلسل التليفزيوني. وتفضل صديق من عشاق المسرح كان سيصحبني واتصل بإدارة المسرح فعلم أن العرض يبدأ في العاشرة وليس في التاسعة والنصف كما يظهر دائما في الاعلان اليومي في الصحف. وحين أبدي دهشته قيل له إنهم يريدون أن يتأكدوا من حضور المشاهدين في الوقت المحدد! ولم يخجل المتحدث باسم إدارة المسرح أن يصرح بأن ادارة المسرح تخدع المشاهد عن عمد بهذا الأسلوب القبيح لينتظر ساعة كاملة ـ إن هو وصل الي المسرح في التاسعة ـ ثم يعود الي بيته في الثانية صباحا. انه فهم عتيق للمسرح الحديث وطبيعة رواده الذين لم يعودوا بالضرورة من طبقة الأثرياء التي تمثل زيارة المسرح عند أصحابها سهرة جميلة قد تمتد بعد المسرح حتي الصباح. وفي البلاد ذات التقاليد المسرحية العريقة يبدأ العرض عادة في الساعة الثامنة وينتهي في وقت يتيح للمشاهد أن يفكر فيما رأي أو يتنافش حوله ويعود الي بيته دون عجلة أو إرهاق. ومازلت حريصا علي أن أشاهد الحلاج في إخراجها الجديد وأستعيد كثيرا من مشاهدها المسرحية في أسلوبها الشعري البديع, فقد عايشتها طويلا وكتبت عنها ودرستها لطلابي في الجامعة, وبخاصة أن طائفة من شباب الفنانين والفنانات المعروفين بتميزهم وإخلاصهم يقومون بأدائها. وما أجمل أن نشهد نجاح الشباب ونشيد بمواهبهم! مازلت أذكر قول سجين الرأي يعارض رأي الصوفي في الفقر وهو أنه ليس الجوع الي المأكل والعري الي الكسوة.. بل الفقر هو القهر واستخدام القهر لاذلال الروح وقتل الحب وزرع البغضاء يقول السجين نادما علي إضاعة وقته في البحث عن المعرفة: كانت أمي خادمة تجمع كسرات الخبز وفضل الثوب من بعض بيوت التجار. وأنا طفل لا همة لي الا في هذا اللغو المأفون مرضت أمي. قعدت. عجزت. ماتت. هل ماتت جوعا؟ لا.. هذا تبسيط ساذج يلتذ به الشعراء الحمقي والوعاظ الأوغاد! أمي ما ماتت جوعا.. أمي عاشت جوعانة! ولذا مرضت صبحا. عجزت ظهرا ماتت قبل الليل! وهذا المشهد ومشهد آخر عن محاكمة الحلاج مشهدان مازالا قادرين علي الخروج من اطارهما التاريخي القديم ليبسطا ظلهما القاتم ـ أو الدامي ـ علي كثير من وجوه حياتنا المعاصرة. يسأل بعض المارة وقد رأوا الحلاج قتيلا فوق صليبه: من يكون؟ ومن قتله؟ فيجيبه قائد المجموعة انهم قتلوه بالكلمات وشهادة الزور! المجموعة: صفونا.. صفا صفا الأجهر صوتا والأطول.. وضعوه في الصف الأول ذو الصوت الخافت والمتواني.. وضعوه في الصف الثاني أعطوا كلا منا دينارا من ذهب قاني براقا لم تلمسه كف من قبل. قالوا: صيحوا.. صيحوا: زنديق كافر! صحنا: زنديق كافر! قالوا: صيحوا: فليقتل إنا نحمل دمه في رقبتنا فليقتل: إنا نحمل دمه في رقبتنا! قالوا: أمضوا.. فمضينا الأجهر صوتا والأطول.. يمضي في الصف الأول ذو الصوت الخافت والمتواني.. يمضي في الصف الثاني دخلت قاعة المسرح بعد أن فاتني تذوق ثمار سوق بغداد. وقبل أن يبدأ العرض بدأ التخت الشرقي والفرقة الغنائية يعزفون وينشدون بعض الموشحات المعروفة من القديم والحديث في غناء جميل وعزف بارع. لكني لم أدرك الصلة بين ما ينشدون وبين موضوع المسرحية, سوي أنها محاولة معهودة للترفيه لا تحسن الظن بالمشاهد ولا بقدرته علي مصاحبة النص الدرامي دون حاجة الي وسائل للترفيه خارجة عنه مهما يكن جمالها. تبدأ القصة الأولي المأخوذة عن ألف ليلة وليلة يوسف وياسمينة بحوار ثنائي طويل بين يوسف الذي كان قد رأي ياسمينة في السوق فهام بها عشقا وشفيقة جاريتها ـ الرسول بين العاشقين. ويستغرق الحوار في النص المكتوب خمس عشرة صفحة كاملة دون انقطاع ودون دخول شخصيات أخري أو خروجها يمكن أن تقطع رتابة المشهد الثابت. ثم يدخل أبو الفضول حلاق بغداد وكانت شفيقة قد فقدت صرة ملابس سيدتها ياسمينة فوجدها أبو الفضول وجاء يبحث عن صاحبتها. ويستغرق الحوار بين الثلاثة في النص المكتوب سبع صفحات أخري. ثم يتفرد أبو الفضول ويوسف بالحوار علي مدي عشرين صفحة! والحوار كله يدور حول حب يوسف وياسمينة ولا يمس وضعا اجتماعيا أو نفسيا أو سياسيا يخفف من رتابته حتي تدخل ياسمينة. ويقف المتحاوران في بقعة ثابتة من المسرح الواسع الخالي من أي ديكور يمكن أن يبرز الشخصيتين في حيز محدود من المسرح, الا من بعض الستائر في الخلف لا تغني عن الشخصيتين شيئا في ذلك الفراغ الممتد. وتستأثر الجارية شفيقة بالجانب الأكبر من اهتمام الجمهور الذي مازال ترضيه النماذج النمطية الشعبية المعروفة. وتبدو في طريقة حديثها وحركة يديها وجسدها كأنها خارجة لتوها من حارة مصرية قديمة لم يعد لها وجود. وكلما استجاب لها الجمهور بالضحك ـ ولا أقول بالبهجة ـ زاد صوتها ارتفاعا وحركتها حدة وخرجت عن النص بنكات مرتجلة شأن الممثلين والممثلات في الكوميديا التي تعرض من حين الي آخر علي بعض المسارح الخاصة. والأستاذ الفريد فرج يحاول في النص أن يقرب بين الفصحي والعامية, وهو أمر ومشروع مقبول تقتضيه أحيانا طبيعة العمل الكوميدي, لكن شفيقة نسيت أنها تعيش في بغداد في القرن السادس وأنها جارية لابنة القاضي فأخذت تردد الفاظا من الحارة المصرية: ياخرابي.. يا دهوتي. يخيبك راجل! ويبدو أن المخرجين في بحثهم عن الجمهور يسرفون في تنازلهم عن قيم الكوميديا المسرحية الراقية ويخلطون بين الضحك السطحي الأجوف وبين البهجة الصادقة. ولست من أنصار أن تتحول حياة الناس فجأة عن طبيعتها المألوفة اذا ما عرض حادث جلل, فليس من طبيعة الحياة ولا من شأن النفس أن يفرغ الناس لأمر واحد مهما يكن جليلا, وقد يجد الناس في بعض البهجة غير المصطنعة ما يشد من عزائمهم ويجعلهم أكثر قدرة علي مواجهة الأحداث. لكن حين تلم بالناس ملمة تفرض نفسها علي عقولهم ووجدانهم ليل نهار بما يشهدون وما يقرأون ويسمعون وتستولي عليهم كآبة حقيقية دائمة يصبح القصد الي الضحك مهما تكن طبيعته أمرا غير مقبول. وما أصدق ما ينطبق قول الشاعر التونسي أبي القاسم الشابي علي أحوالنا النفسية جميعا في هذه الأيام: وإذا ما استخفني عبث الناس.. تبسمت في أسي وجحود بسمة مرة كأني أستل من الشوك ذابلات الورود! | |
0 التعليقات:
إرسال تعليق