الخميس، 30 أكتوبر 2008

هل كان هنا حقًّا؟

هل كان هنا حقًّا؟

هل كان له وجود حقًا؟ أم هو حلم بصري وسمعي فائق السحر مر به عدد منا في زمن معين ثم أفاقوا؟

ما أذكره هو كالتالي: كنا طلبة في الكلية وحواسنا مرهفة كالنصال، وعواطفنا مرهفة أكثر من حواسنا. عندما كانت للّيل رائحة وللسحاب لغة وللظلال رقصة نفهمها ونعرف رموزها، وفي حفل ليلة رأس السنة ظهر على شاشة التليفزيون للمرة الأولى.. لم يكن مطربًا يلمع شَعره بالفازلين، ولا مطربة شبه عارية تضع برج القاهرة فوق رأسها بعد ما صبغته بالأصفر.. مشهد غير معتاد فعلاً أن ترى هذا الشيخ الوقور ببذلته الكاملة ولحيته الشائبة وعباءة على كتفيه، وهو يمشي على المسرح كشبح وسط الظلال مغنيًا بصوت رخيم:
القلب يسألني عن طول رحلتنا صبري يعلله.. والعقل ينهاني
أنوي البعـاد لنلقـى فيه راحــتنا إذ بالحنين وشوقي لا ينامانِ..
وتتصاعد موسيقى رهيبة مهيبة من مسام الكون ذاته فيجفل قلبك..

لقد شفّ الرجل تمامًا.. ذاب.. فلم يعد يشعر بنفسه ولا الجمهور.. صار جزءًا من الأفلاك والشهب والثقوب السود.. اقترب جدًا من مسام أوراق النباتات حتى غاص فيها، وفهم الشفرة الغامضة لرفرفة أجنحة الفراش، وعرف أين تموت الفصول وأين تبيت الدببة القطبية، وعرف سر ذلك الوميض الغامض الذي يتوهج في الأفق في بلاد الشمال.. إنه يعرف أسرار الشفق القطبي.. لقد اقترب.. اقترب جدًا..
يتوغل بين الظلال ساهمًا.. هذه ليست أغنية.. أقسم بالله العظيم أنها ليست كذلك.. إنها تجربة يدنو فيها من سر الكون، وإن اتخذت شكلاً عاطفيًا ظاهريًا كبعض أشعار المتصوفين.. وانتابني رعب خفي من أنه ذهب هناك ولن يعود أبدًا..

من جديد أقسم أنه لم يشعر أن الأغنية انتهت ولا أن أضواء المسرح سطعت، ولا أن الأكف التهبت بالتصفيق.. كان يستجمع ذاته التي ذابت هناك في درب التبانة بين المجرات.. هناك عين جوار كوكبة الدجاجة وقلب جوار وعاء الدب الأكبر.. يستجمع هذه الشظايا المبعثرة محاولاً أن يعود لصورته الأولى..
قالت أختي وهي تمسح دمعة تجمدت في عينها:
ـ"فؤاد عبد المجيد"... يستعملون موشحاته كخلفيات لفرقة رضا أحيانًا.
إذن هذا هو مصدر ذلك الصوت الذائب الغامض القادم من لا مكان، والذي يردد:

"يا غريب الدار بأفكاري
كم تخطر ليلاً ونهارا
أدعوك لتأتي بأشعاري
بجمال فاق الأقمارا॥"

مع الكثير من (يا لا لا لا لا) من أجل إضفاء الجو الأندلسي الساحر وأنت تشعر على الفور بأن هذه الأغاني لم يؤلفها أحد، إنما هي موجودة هكذا منذ كنا في الأندلس. ربما ألفها "زرياب" وربما رقصت عليها "ولادة بنت المستكفي" كي تحرق دم "ابن زيدون"، ولتقنعه أن التنائي أضحى بديلاً عن التداني!

لم أكن واهمًا.. فجأة صار "فؤاد عبد المجيد" ملء السمع والبصر.. على أغلفة المجلات كلها.. في برامج التلفزيون.. في الراديو. إنه الموظف الوقور شقيق الصحفي الرياضي الشهير (نجيب المستكاوي)، الذي كان يهوى كتابة وتلحين الموشحات، وبعد ما صار على المعاش بدرجة وكيل وزارة قرّر أن يخرج بموشحاته الرقيقة إلى النور. تأثير هذه الموشحات علينا كشباب كان ساحقًا.. ثمة سحر لا يوصف عندما تأتي العاطفة من شيخ وقور جرّب كل شيء واعتصر الحياة واعتصرته، وهو ذا يهدي لنا خلاصة تجربته وآلامه في ألحان رشيقة وبكلمات فصحى قوية.. عندما يغني "علي الحجار" أو "عمر فتحي" فهو شاب صديق لك يحكي عواطفه وأنت تسمعه، أما هذا الشيخ فهو يحكي لك تجربته فتصدقه، عندما سما الحب وامتزج بالكون وحكمة السنين وآلام لم تبق شعرة واحدة سوداء في لحيته..
كانت المذيعة تسأله عن كيفية بناء الموشحات فارتجل هذه الكلمات ولحّنها على الفور على العود:

ـ"لاهٍ وخلي البال.. بالفتنة يسبر أغواري
"ما أدري له من حال.. وأقاوم جذب التيار
قلبي رغمي يهواه.. نغم ينساب بأوتاري
وأنا ما أطيق هواه॥ أو أحسن ألعب بالنار"

تصور هذا!॥ وتصور اللحن المرتجل.. ثم يأتي موزع عبقري ليجعل من هذا العمل ملحمة كاملة। بعد هذا ظهر شريطه الثاني الذي غنى فيه بعض الكلمات بالعامية، لكنها عامية تذكرك بعامية "رامي" و"شوقي". أعتقد أن التوزيع كان للفنان "منير الوسيمي". هنا تسمع أذنك الذاهلة الشابة الظامئة للحياة -وقتها طبعًا- كلمات مثل:


ـ"الزمان تاه من سنين.. بس فاكر إننا
"كنا قلبين مجروحين.. واغترابنا ضمنا
"كنت حاسس بالحنين.. لشيء ما لوش فيا وجود
"وانتي الوجود.. انتي الوجود..
"ما قدرتش أفهم إن آه.. فيها صلاة.. فيها حياة..
"كان اهتمامك البتول.. بتقابله جدران من صخور
"تملاه كسور॥ تملاه كسور"


يا نهار أسود!.. (بتول) و(اغترابنا)!.. تأمل رقيّ ورقّة هذه العامية. والصورة الشعرية: "كنت حاسس بالحنين.. لشيء ما لوش فيا وجود" مع ملاحظة أن هذا ليس الشاعر الفرنسي "بول فاليري" وإنما هو وكيل وزارة على المعاش..
بعد هذا جاء شريط من كلماته وألحانه لـ"عفاف راضي" هو (أبأفكاري وبأشعاري)॥ وفيه تقول كلمات مثل:


"يا فاتني يا ساحري..
هيا سويا. إلى الثريا..
فاضت بقلبي أشواق حبي..
فمن يلبي..
عشقا سويا؟..
يا عاذلي يا لائمي..
لا تعذلاني..
بل فافهماني..
الحب يسمو بالقلب يعلو..
حتى يناجي ربا عليا"॥


ويا ليتني أستطيع أن أسمعك هذا اللحن إن لم تكن سمعته.
تضخّم حلم "فؤاد عبد المجيد" وتحوّل إلى نوع من الحمى بالنسبة لنا، حتى إنني كنت أعلّق عشر صور له على جدران غرفتي، وفجأة.. "بحّ".. خلاص.. لم يعد هناك.. لقد توفِّي هذا الفنان العظيم الذي لم تدُم شهرته أكثر من عامين. شهاب توهج في السماء فأضاء كل شيء وأضاء لنا أرواحنا ثم انطفأ وساد الظلام. المليح يبطئ كما يقول العرب، لكنه كذلك يرحل بسرعة جدًا.
شرائط الكاسيت التي كانت عندي.. كلها اقترضها ناس وأضاعوها، وعندما أسألهم عنها ينظرون لي في بلاهة: "أية شرائط؟".. لم تعد أغانيه تُذاع. لا أجد صورة واضحة له في أي مكان، والإنترنت كلها ليست فيها سوى هذه الصورة التي تراها. أسأل بائع الشرائط فينظر لي ثم ينفجر ضاحكًا: "فؤاد مين؟.. هع هع..!"
الفنان في مصر يموت عندما يموت.. هذه حقيقة يجب أن نعترف بها.. أنت موجود طالما أنت تتحرك وتظهر في وسائل الإعلام وتملأ الدنيا صخبًا وتقبض العربون وترفع عدة قضايا.. ولو ظللت حيّا حتى الثمانين فإنك ستصير الفنان الكبير مهما كان مستواك.. لكن تذكر أنك عندما تموت فلسوف تموت فعلاً. حتى على مستوى العظماء مثل "يوسف إدريس" و"عبد الوهاب" و"أم كلثوم".. هل حجم وجودهم هو ذات الحجم الذي كانوا يشغلونه عندما كانوا بيننا؟.. قلها بصراحة..
أحيانًا ألجأ لأصدقاء الكلية كي أتأكد أن "فؤاد عبد المجيد" لم يكن حلمًا بصريًا وسمعيًا جميلاً عشنا فيه عامين أو أكثر. ليرحمك الله أيها الفنان الجميل، ويرحم عبقريًا آخر اختفى تمامًا كأنه لم يوجد، اسمه "حمزة علاء الدين".. من هو "حمزة علاء الدين"؟.. هذا موضوع آخر...!...


0 التعليقات:

إرسال تعليق

قائمة المدونات الإلكترونية

  • كورونا الاهلي والزمالك - باقي علي القمة الافريقية بين الاهلي والزمالك اقل من ٢٥ ساعة وناتي للاثارة والمتعة وجمال الكرة سواء من الاهلي او الزمالك ما يشغلنا في هذه المبارة موضو...
    قبل 3 أعوام
  • اعتقال أمريكي بسبب طعنه للبطيخ بطريقة عدوانية - * يواجه أمريكي تهمة التهديد من الدرجة الثانية بعدما اشتكت عليه زوجته للشرطة إثر تعرضها للإرهاب النفسي حين رأته يطعن بطيخة بطريقة "عدوانية" أمامها و...
    قبل 10 أعوام
  • La lingua Italiana per stranieri - Katerinov - La lingua Italiana per stranieri - Katerinov Book: Download here ( djvu format ) Audio: Download here
    قبل 11 عامًا
  • مسرحية " ذكى غبى جدا " - *مسرحية " ذكى غبى جدا *" *بطوله : * *على الحجار* * و محمد سعد* * و ميمى جمال* *تحميل مجاني - Free Download* *Server* مشاهدة مباشرة اون لاين *ana...
    قبل 11 عامًا
  • Pavarotti - Nessun Dorma (Live in Paris) - *ITALIAN;* *Nessun dorma! Nessun dorma!* *Tu pure, o, Principessa,* *nella tua fredda stanza,* *guardi le stelle* *che tremano d'amore* *e di speranza.* *M...
    قبل 11 عامًا
  • برلمان التحرير - «حصاوى بالمقهى يجلس شاردا وبجواره جاره» الجار: سرحان فى إيه يا حصاوى؟ حصاوى: أصلى بفكر أرشح نفسى للبرلمان. الجار: هاهاى، دا أنت مغمى عليك يا حصاوى، انتخ...
    قبل 11 عامًا
  • يا بارى الكون - يا بارى الكون فى عز وتمكين وكل شى جرى بالكاف والنون يا من احس به فى كل كائنة وقد تعاليت عن ظن وتخمين فى هدئه الليل يارب اراك فى هدئة الليل يارب اراك ف...
    قبل 12 عامًا
  • - معكم يوميا راديو الحجار من الساعه التاسعه الي الساعه العاشره صباحا ومن الساعه الثانيه ظهرا الي الرابعه ظهرا ومن الساعه الواحده بعد منتصف الليل الي السا...
    قبل 14 عامًا
  • اطفال الجنه - ايها الحب المطل من شرايين النقاء ايها الخير العظيم يا ضياء من ضايء ايها الحب المطل من شرايين النقاء ايها الخير العظيم يا ضياء من ضايء جئت بالحق تنادى ر...
    قبل 14 عامًا

إجمالي مرات مشاهدة الصفحة