لابد أن من أطلق على مصر الجديدة هذا الاسم كان متيقناً من أن هذا الحي ذا الخصوصية الفريدة سيظل جديداً إلى الأبد. وأن العابرين فيه يكفيهم السير بين شوارعه الرحبة والنظر في بيوته الواردة من دنيا أخرى فيها الجمال والدقة هما الأساس، للشعور بالتجدد والتجديد والجدية والجدة وكل الكلمات التي تتكون من الجيم والدال والياء والتاء المربوطة!
لكن "الكوربة" بكل تأكيد تختلف. بكل تأكيد "غير". الكوربة – إن جاز التعبير- هي "صرة" مصر الجديدة. تقع تقريباً في المنتصف تماماً وتبدو المنطقة ذات عبير ورونق وألق أخاذ يجعلها منفردة عن باقي مفردات الجمال المتناثرة في مصر الجديدة ذلك الحي الذي يزيد عمره على مائة عام، لكنه يبدو شاباً متناسق الملامح بهي الطلة في العشرينيات.
الفسحة في الكوربة تحلو نهاراً ومساء. وطوال أيام السنة لكنها تصبح بـ"طعم" مختلف في شهر رمضان. ففي هذا الشهر المبارك وبعد منتصف الليل يتحول شارع "إبراهيم"-يقال إن لقبه هو الكوربة ولذا أصبحت المنطقة على اسم عائلته- إلى أرض "السحور والدردشة". تتراص الموائد والكراسي بنظام لافت على جانبي الطريق. ويخرج -وكأنه كائن حي يمشي ويتحرك!- مطعم "الشبراوي" المعروف إلى المنتصف مستعرضاً كل أنواع الوجبات الشرقية الشهية والذي يكون الفول هو "عمدتها" بحكم جماهيريته الطاغية طبعا!. وعلى الجانب الآخر من الشارع تمارس المقاهي دورها المعتاد ويتصاعد دخان الشيشة على "خفيف" وإلى جواره زجاجات الفيروز والكوكا والبيبس والشاي أبوفتلة.. المتأمل للشارع وقد احتشدت فيه السيارات على كل لون وشكل وكأنها مخصصة للبيع بدرجة تجعل السير فيه أمراً شديد الصعوبة فعلاً، يدرك يقينا أنه يشهد احتفالاً أو كرنفالاً خاصاً لكنه إذا أتى في اليوم التالي أو الذي يليه سيدرك تماماً أن هذا أحد طقوس "الكوربة" اليومية الرمضانية المعتادة.
الجميل فيما يحدث أنك تتناول "سحورك" وفوقك -حيث البيوت المزخرفة على "رواقة" المبنية على طرز أوربية بها "نفس" شرقي واضح- تاريخ حي لم تطمسه الملابس الموجودة على البلكونات أو آثار الطيور الرائحة والغادية. هنا ومنذ مايزيد على مائة عام بقليل قرر البارون البلجيكي "إمبان" أن يشيد قصره المرعب في جماله المعروف باسمه حتى يومنا هذا. اختار الرجل الصحراء حتى يكون "مع نفسه" لكنه العمران الأوربي والناس المصريون والأجانب زحفوا تدريجيا إلى جواره، وبدأت ملامح حي "مصر الجديدة" في التشكل شيئاً فشيئاً بدقة بالغة وكأن من كان يشيده هم خبراء في "المنمنمات" فلم يتركوا ركناً إلا ونفخوا فيه شيئاً من روح الجمال والأبهة.
هكذا إذن يمكن أن تفسر ذلك الشعور الغريب الفريد بـ"الراحة" عندما تمر في شارع بغداد -العمودي على شارع إبراهيم- وتتأمل تلك "البواكي" التي تحتشد فيها بالأسفل محلات لايزال بعضها يحمل تلك الرائحة المميزة لدنيا الأبيض والأسود فتجد مثلاً "بقالة خريستو" وإلى جوارها بقالة أخرى تحمل اسماً عربياً لا يوجد بها حرف عربي واحد في تضافر نادر لاتشعر فيه بشذوذ أو خروج عن السياق وكأنه من الطبيعي جداً ومن العادي جداً في مصر الجديدة أو مصر الحقيقية أن يترافق العربي مع العجمي، "خريستو" مع "أحمد".
في واجهة شارع بغداد يطالعك ذلك الكيان الضخم. قصر رئاسي آخر لكن يبدو أنه قليل الاستخدام فلا تشريفات كثيرة تمر من هذا الطريق. قصر قادم من سنوات ليست بعيدة جداً، حيث كانت الضخامة المأهولة دليلاً على الجمال (هل مصادفة إذن أن "بديعة مصابني" أشهر نجمات الرقص الشرقي في مصر في بدايات القرن العشرين كانت ممتلئة الجسم؟!) وحيث كان العمال المصريون يستطيعون صنع هذا القصر الفخيم -الذي لن تستكشف كل تفاصيله بسبب الأسوار المحيطة به- بكل بساطة دون معدات حديثة أو أوناش عملاقة وكأن التحدي غواية وهواية عندهم. قديماً كان هذا القصر هو "فندق هليوبوليس الكبير" الذي كان أكبر فندق في إفريقيا والشرق الأوسط عند بنائه وواحد من أضخم فنادق العالم إن لم يكن أضخمها على الإطلاق.. آنذاك طبعا.. ترى كم تساوي الإقامة لليلة واحدة فيه هذه الأيام؟
اترك تلك الفخامة المبنية بالخرسانة والحب وتعال لنسأل من قال لك بأن مجمع الأديان يوجد في مصر القديمة فقط؟ هنا في مصر الجديدة –التي لعلها تغار من القديمة المستحوذة إعلاميا على الخصوصية الدينية الفريدة التي تميز هذا الوطن- مجمع أديان آخر. لاتتحرك من مكانك في الكوربة. بعد أن انتهيت من سحورك في شارع إبراهيم مل قليلاً على شارع المسلة. وأنت تسير إلى الأمام انظر يمينك.. أي نعم رقم 5. إنه معبد "فيتالي ماجار" اليهودي الذي تم تأسيسه عام 1927 ستجد حراسة على المعبد بطبيعة الحال، ولا أحد يعرف إذا كانوا سيسمحون لك بالدخول أم لا، لكنه في كل الأحوال يضم في الداخل بالإضافة إلى قناديل الفضة والقاعات والسلالم الرخامية والشرفات والمقاعد الخشبية ملجأ مخصصاً لإقامة أبناء الطائفة اليهودية من المسنين. لا أحد منهم هنا الآن لذا ستجد المعبد يتيماً وحيداً على عكس حال الكنائس التي تمتليء بها الكوربة. في أعلى نقطة بشارع الأهرام ستشاهد كنيسة البازيليك الضخمة التي عمرها من عمر المكان، وعندما بناها البارون "إمبان" لم يضع فيها أجراساً لأنه كان يهوى الهدوء. ثم هناك كنيسة الروم ذات الأبراج الحمراء التي تجعلك متيقناً من أنك انتقلت فجأة إلى أوربا الشرقية. أما المساجد فعليك الانتظار إلى موعد صلاة الفجر لتسمع صوت الأذان متدفقاً من كل الزوايا والأركان، يمكنك إذن أن تصلي الفجر في جامع "حفيظة الألفي" -الذي يقع خلف كنيسة البازيليك إلى اليسار- إذ توجد به "عيادة خارجية" يمكن أن تعالجك من أي "تلبك معوي" بسبب الإفراط في طعام السحور!
نحن الآن نقف في شارع الأهرام. شارعان شهيران فقط بهذا الاسم في القاهرة أولهما الموجود في الجيزة ويعرف اختصارا باسم "الهرم" وسمي بذلك لأن الأهرامات الثلاثة تطل عليه كما أنه الطريق الرئيسي المؤدي إليها. أما شارعنا هذا فسمي بنفس الاسم لنفس السبب! أي نعم فعندما تم تأسيس مصر الجديدة كان يمكن للسائرين في هذا الشارع أن يروا الأهرامات التي تبعد مايقرب من 40 كيلو رأي العين والنني!
في شارع الأهرام لديك روائح زمان المعتقة أيضاً. مطعم وكافيتيريا الأمفتريون. "تراس هليوبوليس" الذي يواجهه وهو مطعم وكافيتريا أيضاً متوسطة الأسعار تجعلك تتأمل مصر الجديدة من ارتفاع طابقين. وإلى جوارهما "جروبي" العتيق الأصيل الفخيم. الذي لايزال زواره حتى يومنا هذا فيهم شيء من سلوك الباشاوات "الراقيين" وولاد البلد في نفس الوقت. هنا في الكوربة حيث محلات الملابس من أرخص الأسعار وحتى أكثرها اشتعالا. هنا الكوربة حيث "كنتاكي"، و"ماكدونالدز"، و"بيتزا هت" إلى جوار فول "غريب"، وكشري "هند" ومخبز الإخلاص للعيش البلدي "أبو شلن" وآيس كريم ماجيك اللذيذ بطعم السياسة المواجه للقصر الرئاسي، وعصير قصب "جنة الفواكه" الذي زاره الرئيس الليبي "معمر القذافي" منذ سنوات وارتشف منه عدد 2 شوب عصير!
هنا مصر الجديدة.. هنا الكوربة.. الساحرة الآسرة، الماهرة الزاهرة، العاطرة الشاعرة، النيّرة الخيّرة، الطاهرة الساخرة القادرة.. وكأنك يا عم "سيد حجاب" وأنت تسطر هذه الكلمات الماسية ليغنيها صوت مصر "على الحجار" كنت جالساً بيننا هنا في.. الكوربة!
كاميرا: د. أحمد الشامي
زار المكان: محمد هشام عبيه
0 التعليقات:
إرسال تعليق