الآخرون هم الجحيم
يحدث أن تكون مستسلماً لوداعة الملل، سادرا في غيّ لحظة اعتدتها واعتادت عليك، مسيطرا، ما أمكنك، على ما جرى أو ما سيجري من أحداث لا تخرج في الغالب عن نطاق الهيمنة الذاتية التي شرعت ترسم حدودها وتتحرك في نطاقها الذي يكون أضيق من فسحة الأمل المرتجاة..
ولا تشتكي، في حمأة هذا السأم الذي رسمتَ خريطته، من أنّ ما تمسي عليه قد تصبح عليه، فلا شكوى من وقائع أضحت تسيج عالمك المهني أو النفسي، فأنتَ في عزلتك الاختيارية في منأى عن الخضات المفاجئة أو الهزات التي تجعل الزمام يفلت من قبضتك..
كل شيء داخلَ دولتك الافتراضية الصغيرة خاضع لمزاجك، مهما كان متقلبا أو حرونا أو نازعا إلى الاستقلال. أنت ديكتاتور شؤونك، تسوسها بما يجنبك الوقوع في فخاخ النكد الذي يترك غصاته المتواليات على روحك الساكنة المستكينة..
ولأنّ النفس أمّارة بالنزق، ولأنكَ توّاق أبدا إلى تفعيل الكائن الاجتماعي الذي في داخلك، من دون الإضرار بالسلم الأهلي الذي تنشده لذاتك ولمن حولها، تفكر في الخروج من إسار هذه الشرنقة، فتروح تلبي دعوة هاهنا وتنخرط في لقاء هاهناك، كي لا تصاب بلوثة العزلة النهائية.
يحدث ذلك، وفي النفس آمال أن تغير هواءك وتتنفس نسيما تمنّي رئتيك أن يكون مضمخا بالدهشة والحبور، فتحزم أمرك وأنت لا تنوي إلا على فسحة تشعرك بأن الآخرين هم رصيدك الارتوازي واحتياطي البهجة المشتهاة في عالم متغضن، شحيح السعادة.
تستقل سيارتك بعدما تكون قد تزينتَ وتعطرتَ وعزمتَ على الفرح. تختار شريطا أنيسا لفيروز أو محمد منير أو علي الحجّار أو ماجدة الرومي، وتشعل المكيف كي لا يشتت متعتك في الغناء أي صوت آخر، أو أي دخان منبعث من مؤخرات الحافلات التي تنفث الموت.
وما أن تصل اللقاء أو الجَمعة حتى تتبادل السلام والقبل والتحيات المباركات. ويحدث أن تجد أحدهم وقد علت وجهه كشرة فيسلم عليك ببهوت، فتستشعر في ذلك خطرا، لكنّ طاقة التفاؤل في داخلك تهزم ذلك الشعور الذي تتمناه عابرا وغير مقصود. لا عليك فأنتَ هاهنا لكي تغير الجو وتتواصل مع الناس وتتعرف على أصدقاء جدد أو تستأنف صداقة مقطوعة أو ترمم زعلا طارئا.
ويحدث أن يكون النقاش من ذلك النوع الذي خضتَه وسمعتَه وألفتَه وتجاوزتَه. لا ضير، إذن، لو أنكَ أصغيتَ، وهكذا تفعل. بيْد أن إحداهن أو أحدهم يجرك نحو المواجهة، وكأنها/ أو كأنه يود لو تندغم في أتون السجال الضاري وأنت زاهد ومتعفف وقرفان، فتختار "عنوة" الصمت والاستماع، آملا أن تكون هذه فقرة قصيرة في الجلسة سرعان ما يقفز المتحدثون عنها، وينخرطون فيما هو ممتع ومفيد ومسل.
لكن توقعاتك تخيب، لأن الجميع يسنّ لسانه لكي لا تفوت أحدهم فرصةُ الإدلاء بدلوه في الإفتاء واستسهال إعلان الأحكام وتصنيف الناس والمسؤولين المحليين والعالميين في الخانة التي لا تعثر فيها إلا على ما هو أبيض أو أسود، حيث لا مكان للرمادي أو للنسبي. هاهنا الإطلاقية القاطعة هي سيدة الموقف بلا منازع.
ورغم أن عقلك الجدلي يأنف من الحديث، لكنك، لفرط ما تسمع من أغاليط تردد في سرك: "ما جادلت جاهلا إلا غلبني"، فتسكت على مضض، فيما نيرانٌ تتلظى في مراجل روحك.
ولا تستسلم بسهولة إلى هذا الاعتراك العبثي، فتسعى إلى امتصاص حدّته بأن تطرح وجهة نظر هي في صلب عملك واهتمامك وفي بؤرة مشاغلك، غير أن أحدا قصيا يعلو صوته على صوتك الهادئ مزمجرا والزبد يملأ شدقيه لكي يعارضك، فقط من أجل المعارضة ولا شيء سواها. تتوسل إليه أن يمنحك الفرصة لكي تتم حديثك وأنت الأقلُ حظا في الكلام، لكنه يمضي في نفث رذاذ فمه على من حوله حتى يصلك، فتنوء بهذه المهمة الثقيلة.. وتخرس!
ويمضي الوقت لزجا في السهرة التي توخيتَ أن تمنحك شيئا من السلوى تعينك على المضي في مسيرة السأم اليومي التي اخترتَها واختارتك واعتدتَها واعتادتك وألفتَها وألفتك وتعايشتَ معها وقبلتْ بالتعايش معك...
ويطيبُ لك أن تلوذ بعزلتك وأنت جالس بينهم، أولئك الأصدقاء القدامى وأصدقاؤهم الذين كنت تنشد أن تضيفهم إلى قائمة أصدقائك الغر الميامين..
وتروح تتأمل حركة الأفواه والأيدي بمعزل عن الأصوات الخشنة، حتى تلك الصادرة عن أنوثة مفترضة. كأن بك صمما تراقب ما حولك وتتأمل في موجات التثاؤب التي تعلن أن السهرة أزفت على الأفول، فتكون أولَ المغادرين، بلا سلام أو كلام أو جلبة.
ولما تدير محرك سيارتك، تعود إلى صوت فيروز الطالع من أعماق المسرة والسحر، فيبلل صوتُها روحك المتربة، ويغمرك بحبق وديع وصديق وحنون....
بيد أنك لا تنفك، في غمرة امتعاضك، تستذكر مقولة الفيلسوف الفرنسي سارتر الأثيرة: "الآخرون هم الجحيم"!
موسى برهومة
0 التعليقات:
إرسال تعليق