| عبد الجليل الشرنوبي | يومًا قرأتُ قصيدة "حكاية عباس" للشاعر أحمد مطر لأول مرة قبل نحو عشرين
عامًا، حفظتُها ورحتُ أردِّدها كلما كانت فرصة، خاصةً في مظاهرات
الحركة الطلابية بجامعة الأزهر التي كانت تشتعل تضامنًا
مع الحق الفلسطيني، غير أنني يومًا ما دار بذهني أن أحل
محل عباس في القصيدة!.
واليوم أعترف.. لقد اكتشفت أنني عباس اليقظ المنتبه الحساس..
القابع خلف المتراس، وتيقَّنت بأنني مثله تمامًا؛ منذ سنين الفتح؛
ألمِّع سيفي وألمِّع شاربي وشارب من أراد بعد أن عز مني الشارب!.
كنت أجلس بين صفوف الحضور في ملتقى حق العودة العربي الدولي
الذي انعقد في دمشق يومي 23 و24 نوفمبر من العام 2008م،
وما أن أطلَّ علينا خالد مشعل رئيس المكتب السياسي لحركة المقاومة الإسلامية
حماس حتى انخرطت وكلّ من كان في القاعة في موجةٍ من تصفيقٍ عاصفٍ،
واضطر الرجل إلى أن يقاطع هدير تصفيقنا ليتحدث؛ ليُوقفنا على حقيقة الواقع وحقيقتنا.
لم يبدأ الرجل حديثه بالحديث عن حق العودة وقدسيته وضرورته وحتميته،
وغيره من حديث كنت وغيري قد أعددنا أنفسنا لسماعه؛
بل قال الرجل: "مُجبَرٌ على أن أخرج من عنوان الملتقى؛ فكم آلمني وآلمكم
وآلم كل حر مشهد ياسر؛ الذي يحيا على التنفس الاصطناعي، وبعد قطع الكهرباء
عن غزة صار يتناوب أهله الضغط على أنبوب بلاستيكي ليستطيع البقاء حيًّا".
وران الصمت على الجميع متحوِّلاً إلى طائر موت ضخم يلتهم ألسنتنا فتفقد
القدرة على الهتاف، ويقبض بجناحيه على سواعدنا، فلا تستطيع أن تصفِّق،
ويعلو بِهَامَتِه على قاماتنا المنتصبة فتتقزَّم، ليتابع السيد مشعل حديثه ويرميَنا
وما بقي من أشلاء ضمائرنا أمام أهل غزة وجهًا لوجه في ساحة العلي القدير،
وهم يهتفون مردِّدين معنى الحديث الشريف: "لِمَ أغلقتم عنا بابكم وأنتم لنا جيران؟!
لِمَ أغلقتم عنا معابركم وأنتم لنا جيران؟!
لِمَ منعتم عنا غازكم ونفطكم وقوتكم و.. و.. و.. و.. و.. وأنتم لنا جيران؟!".
كان إلى جواري يجلس الأخ العزيز طبيب الأسنان وعضو مجلس الشعب د. حازم فاروق،
وسمعته يخاطب نفسه ويخاطبني ويخاطب كل حي في القاعة "ياااا للفضيحة"،
وراح يكررها، ورحت أسعى جاهدًا إلى أن أحفر لنفسي في الكرسي الذي
أجلس عليه قبرًا أو قبوًا أو أية وسيلة تعبر بي مكاني إلى حيث لا
أجد نفسي أمام نظرات مشعل التي صِرْتُ أراها تتهمني دون بقية الحضور.
لستُ أدري ما الذي دفع إلى مسامعي كل أناشيد الوطنية؛ غير أنها كانت
تنهال على مسامعي كالصواعق بينما صوت مشعل يواجهها:
وأنتم لنا جيران وفي الخلفية "قوم يا مصري مصر دايمًا بتناديك".
وأنتم لنا جيران وفي الخلفية "أنا المصري ي ي ي".
وأنتم لنا جيران وفي الخلفية "مصر التي في خاطري".
وأنتم لنا جيران وفي الخلفية "وقف الخلق ينظرون جميعًا".
وأنتم لنا جيران وفي الخلفية "وطني حبيبي الوطن الأكبر".
وأنتم لنا جيران وفي الخلفية "أنا مصري وأبويا مصري".
وأنتم لنا جيران وفي الخلفية "ما شربتش من نيلها؟!".
غير أن المشهد حمل إليَّ صورة علي الحجار وهو يشدو
"يا مصري ليه دنياك لخابيط والغلب محيط والعنكبوت عشش على البيت وسرح ع الغيط".
وأفقت من أوركسترا المرّ؛ التي تدق في مدى انكساري على قصيدة أحمد مطر:
"عباس وراء المتراس
يقظ منتبه حساس
منذ سنين الفتح يلِّمع سيفه
ويلِّمع شاربه أيضًا"
وصرت مع ضيف عباس.. رأيته يدخل داره وعباس يرحِّب
ويتركنا أنا والضيف والزوجة والأولاد والنعجة ويمضي عابسًا
ليقلب القرطاس ويلِّمع الشارب ويصقل السيف
ويضرب الأخماس في الأسداس لتبقى ضفة..
صرت وحدي مع الضيف.. رأيته يسرق ويقتل ويغتصب ويشرِّد وعباس "مطنش"..
صرت وحدي مع الضيف.. شاهد عيان عليه، بينما هو يتفق ويتحالف ويخالف
وينكص ويعِد ويُخلف ويوقّع ويتراجع وعباس "مطنش"..
صرت وحدي مع الضيف.. حمامة سلام معه، بينما هو يطبِّع معي العلاقات،
ويرسل إليَّ رسله وسفراءه ورصاصه وسرطانه ومبيداته وعباس "مطنش"..
لكن الأدهى من "طناش" عباس هو حالي؛ حيث إنني أمسح دماء الضحية
حتى لا يراه أحد، وأبحث عن طبيب يرتق بكارة المغتصبة حتى لا تفضحنا بصراخها،
وأبرِّر له عندما ينكص وعده، وأزيِّن بضاعته للجيران عندما ينزل بها للسوق،
وأفتح له دكاكين على أرضي، وألوم الضحايا إن صرخوا على خشبة النحر
أو تألموا من نصل السلخ، وأفعل كل طاقتي إن الضحية عزمت على الرفض
أقنعها وأهدّدها وأحاصرها وأجوِّعها وأفضحها و"أردح لها".
أعتقد أن مَعين الشعراء أنضبه الواقع، وتجاوزته تصرفات "عباس" بمراحل..
صار على شعرائنا أن يتركوا الرمزية والعبثية والسريالية وأن يتجهوا مباشرةً إلى ما يقصدون..
فـ"عباس" صار واقعًا أقوى من رمزيتهم وعبثيتهم وسرياليتهم وحداثتهم..
"عباس" صار أقوى من الطبيعة وما وراء الطبيعة.. "عباس" استحال بقوة اللحظة
بطل سلاسل رجل المستحيل وملف المستقبل والعميل 13 وقبلهم وبعدهم العميل كورمبو!.
"عباس" رئيس دولة في الهواء.
"عباس" يرى المقاومة جريمة.
"عباس" يرى شرعيته فوق كل شرعية.
"عباس" لا يملك لكنه يعترف بشرعية من لا يستحق.
"عباس" يفتح بابه عندما يسمح له مغتصب دار جاره فقط، وغير ذلك فهو في حاله تمامًا.
"عباس" يرى في حوار الأديان فريضةً وفي حوار الإخوان نقيصةً.
"عباس" يرى أبناء عمومته خونةً يعبثون بأمنه ويرى أبناء القردة خلانًا!.
"عباس" يحاصر أبناءه ويعتقلهم ويحاكمهم ويصفح عن جواسيس القردة إن جاءوه.
"عباس" إذا ما انتفض أبناؤه لإطعام أشقائهم صادر تبرعاتهم ومعها طعامهم.
"عباس" تُسطِّر صحفُه كلمات راكعة وجملاً خانعة وعبارات مفرطة.
"عباس" في الواقع طري لين، وهين بين.. وساكت.. خانع.. خائف..
تائه.. يحاصر غزة بصمته، ويظلمها بخنوعه، ويجوِّعها بخوفه، ويذبحها بتيهه.
فيا أيها العبابسة..
في قصور الرئاسة ودواوين الملك.
في مجالس الأمة والشعوب والشورى والمحليات.
في الصحف القومية والحزبية والمستقلة والمواقع الإلكترونية والمدونات
والإذاعات والمحطات الأرضية والفضائية.
في مدارسكم وجامعاتكم ونقاباتكم ومصانعكم وشركاتكم ومحلاتكم ووِرَشكم ودُوركم.
كلكم "عباس" على طريقته، لكن الوقت لم يَفُتْ، والحق لم يَمُتْ،
ولن يسبق السيف العذل طالما بقيت إرادة الإنسان.
وصارت الأسئلة التي تطرح نفسها بفرض الآن "أتموت غزة وفلسطين
ليحيا عباس؟! وتموت العراق وأفغانستان ويتمزَّق السودان والصومال ليحيا عباس؟!
وتموت إرادة الشعوب ليتوارث أوطاننا عباس وبنُوه كابرًا عن كابر؟
وأنجوع ليشبع عباس؟! وأنعرى ليلبس عباس؟! وأنظمأ ليشرب عباس؟!
وإلى متى نحيا وبداخلنا عباس يحرِّكنا ويُسيِّرنا ويخوِّفنا ويُقيِّدنا ويُطأطئ
هاماتنا ويسبي أمسنا ويومنا وغدنا؟!
للإجابة عن هذه الأسئلة علينا أن نقلب القرطاس.. نضرب الأخماس لأسداس..
نلملم ذخيرتنا والمتراس ونمضي.. |
0 التعليقات:
إرسال تعليق